هذه التدوينة تحتوي على كلمات بالعامية المصرية
"كلمتين يا مصر دايماً، همّا آخر كلمتين، حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين"، عبارة من إحدى أغاني الشيخ إمام، كنت دائماً ما أرددها نهاية عام 2010، خلال نهاية الحكم المباركي، الذي اختتم بتزوير فج لإرادة الجماهير، في الانتخابات البرلمانية، التي ما زلت أذكر تفاصيلها، وكأنها كانت بالأمس؛ حيث كلفت بالتغطية في مناطق الصف وحلوان وأطفيح.
في منطقة الصف، كنت شاهدة على عملية تزوير فجة، تمثلت في خروج صناديق الاقتراع وتبديلها، من الباب الخلفي لإحدى اللجان الانتخابية، بينما أغلقت البوابة الرئيسية للجنة أمام الناخبين، ووقف بلطجية النظام يتحرشون بالإعلاميين، ويمنعونهم من توثيق التزوير.
يومها عدت باكية إلى المنزل، ومرارة الظلم تسد أبواب الطريق أمامي، خاصة بعد أن عجزت أغلب وسائل الإعلام عن نقل الحقيقة كما هي، تحت ضغط نفوذ الحزب الوطني الحاكم وقتها، التابع لحاشية الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك.
عقب ذلك ببضعة أشهر، جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، لتنتشلني من بئر الحزن العميقة، التي رأيت أن أغمس نصف عقلي بها، بينما النصف الثاني يراقب الدنيا، على طريقة الراوي، الذي لا يحق له التدخل في الأحداث؛ لأنه لا دور ولا قيمة له، وصراخه لن يؤثر كثيراً في المشهد.
تغير ذلك الشعور تماماً منذ توارد الأنباء عن إطاحة الثورة الشعبية التونسية بنظام بن علي، وزاد إحساس التحدي بداخلي، والقدرة على الفعل، في عشية الـ27 من يناير، حين احتجزنا الأمن داخل مبنى نقابة الصحفيين، بعد تعديه على الكاتب محمد عبدالقدوس، رئيس لجنة الحريات بالنقابة وقتها، بطريقة مهينة، لم تراعِ سن الرجل ومرضه.
يومها نجحنا في الهروب من الكمين الأمني، أنا ومجموعة من الزملاء، عن طريق جراج النقابة، واتخذنا طريقاً مخالفاً، نحو محطة مترو مبارك، لنبتعد عن مناطق القبض العشوائي.
في الطريق، كنت أرى شوارع وسط البلد مظلمة، والمحلات مغلقة، بينما طلقات الرصاص تسمع من حين لآخر، يصحبها صياح مكتوم، وقتها أيقنت أن مصر قادرة على إسقاط النظام، تماماً كما حدث في تونس.
بعد ذلك تسارعت الأحداث، فجاء "جمعة الغضب"، ودماء الشهداء، واعتصام الميدان، وحظر التجول، ومحاولة النظام إحداث إصلاحات محدودة، وإصرار ثوار الميدان على خلع مبارك، والخطاب العاطفي للمخلوع، الذي واجهه معتصمو الميدان برفع الأحذية، في مشهد تاريخي، مصري من الطراز الأول.
الأحداث السابقة مرت سريعاً في رأسي، على طريقة الفلاش باك، وأنا أتابع بغضب مكتوم تلك الموجة من الحنين، التي تجتاح وسائل الإعلام مؤخراً، في الحديث عن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، والدفاع عنه، ومحاولة تبييض سيرته، خلال 30 عاماً من الحكم الفاسد.
لا أعلم مَن المسؤول عن تلك الحملة البغيضة، غير رجال النظام السابق، الذين طلّوا مؤخراً من جحورهم، عقب حصول أغلبهم على براءات وتسويات مالية، وقد بدأ الحديث عن المخلوع، بنقد اختفاء سيرته من بعض كتب التاريخ، المقررة على المراحل التعليمية المختلفة، وأخذت الأقلام الموالية لذلك العصر المباركي تدافع عن ضرورة عودة سيرته إلى كتب التاريخ، وحفظ مكانته كقائد من قادة حرب السادس من أكتوبر.
لتمتد تلك الحملة، لنقل مواقف من حياة المخلوع، تكشف جانباً إنسانياً، بدءاً من الحديث عن حقيقة موت حفيده، وانتهاء بتصريحات نقلت عنه، جاءت رداً على من يترحمون على أيامه، ويحنون إلى فترة حكمه، حيث أكد أن "اللي راح ما يرجعش.. وإذا رجع ما ينفعش".
حقاً ما قلت يا سيدي الرئيس المخلوع بفعل الثورة، "اللي راح ما بيرجعش".. وعليك أن تعلم أن ألف شهيد لقوا حتفهم في ميادين الثورة، خلال جمعة الغضب، كانوا في عمر الزهور، أكبرهم لم يتعدَّ الثلاثين من عمره، وأصغرهم كان في بداية سنوات المراهقة، وجميعهم حلموا بمصر حرة، شوارعها مفتوحة، وخيرها لأولادها، وسجونها فقط للفاسدين والقتلة.
هؤلاء الشهداء لهم دَين عندك يا سيادة الرئيس، دين لا ينقضى بحكم براءتك أنت وزبانيتك من دمائهم، ولا بتعويض أهاليهم بمعاش الشهداء، دون أن تطلق أسماءهم على الشوارع والميادين، وتدرس سيرتهم في كتب التاريخ، دون أن يتحقق القصاص لدمائهم، وتتم محاسبة من تسبب في قتلهم بالرصاص الحى.
هذا غير مصابي الثورة، الذين سجنوا في إعاقاتهم، دفاعاً عن ميادين، حملت رمزية الوطن، وما زالوا يعانون في رحلة علاجهم الشاقة، بينما من تسبب في مأساتهم يتلقى العلاج في أهم مستشفيات الدولة، وينعم بقضاء ما تبقى من شيخوخته، في ظل أفراد عائلته، وحاشيته، وأقلام ارتضت أن تهلل له، وتنتظر أن يسامحه المصريون، وأن يدعوه لفترة جديدة من الحكم، يستكمل خلالها عامه المائة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.