حاجة المنطقة العربية لنجاح التجربة المغربية

إن أهم مسؤولية ملقاة على الطبقة السياسية اليوم هي تفويت الفرصة على أي خروج عن المنهجية الديمقراطية، فهي بذلك تعطي مبرراً لوجودها وتزيد في مصداقية دورها أولاً، لكنها أيضاً تعطي بارقة أمل للمنطقة بأن الاستثمار في الاستقرار يمكن أن يرافقه تحقيق الإصلاح والدمقرطة والتداول العادي على خدمة الصالح العام، ولو بتدرج معقول.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/25 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/25 الساعة 02:07 بتوقيت غرينتش

يمكن اعتبار الذكرى الثالثة لمحرقة ميدانَي رابعة والنهضة بالقاهرة (14 أغسطس/آب) مناسبة ليس فقط لتذكُّر تهاون المجتمع الدولي في التعاطي مع فض دموي لاعتصام سلمي أزهق فيه انقلاب عسكري مئات الأنفس المطالبة باحترام ديمقراطية الصناديق، ولكن أيضاً مناسبة لقراءة المسارات المختلفة التي اتخذها "الربيع العربي" الديمقراطي في الدول التي شهدت حراكه، فالتقتيل والتشريد والاحتراب الداخلي بغطاء وتدخل إقليمي – دولي يخيم على مسار الربيع الديمقراطي في التجربة السورية والليبية واليمنية، والسجون والستار الحديدي للعسكر تخيم على التجربة المصرية، بينما تواجه التجربة التونسية هشاشة الوضع الأمني وصعوبات تحقيق توافق لا يجعل أي طرف يحس بالاستهداف حتى يلجأ لعدم المشاركة في الحكومة، وإذا كان هذا المخاض الإقليمي يمكن فهمه كهزة ارتدادية لسنوات تجذر وتغول الديكتاتورية وأنظمة الحزب الأوحد، فإن التجربة المغربية تقدم نموذجاً مغايراً بالمنطقة.

ومنطلق التجربة أن الشباب المغربي، وعموم الشعب، يوم خرج للشارع في سياق إقليمي مضطرب لم يرفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، بما في ذلك جماعة العدل والإحسان التي تتبنى في أدبياتها فكرة القومة؛ حيث كان السياق الدولي والإقليمي والوطني -ولو نفسياً- يقبل بالقومة وبإسقاط الأنظمة، فلم تنحُ الجماعة ذات المنحى، ونفس الكلام ينطبق على اليسار، سواء الجذري أو الذي قد يكون قد أحس بالغبن والإضعاف، مع إنهاء تجربة التناوب بالخروج عن المنهجية الديمقراطية سنة 2002، فالنفس الانتقامي لم يكن سيد الموقف سنة 2011، بغض النظر عن قوة هذا الطرف أو ذاك، وهذا أعطى فرصة للفاعل السياسي؛ ليكون في مستوى اللحظة. والعنصر الثاني أن الملكية سبقت الملكيات الأخرى بالمنطقة في التفاعل مع أحداث الشارع ومستجدات الواقع، والعنصر الثالث أن الحكومة، بخلاف تجارب أحزاب أخرى بالمنطقة لها نفس مرجعية العدالة والتنمية، استطاعت أن تكمل ولايتها، عموماً بذات النفَس والروح التي انطلقت بها سنة 2012، رفقة أحزاب لا تتقاسم المرجعية، بقدر مشرف من الإنجازات يحتاج جيلاً ثانياً من الإصلاحات، مع ما اكتنف ذلك من صعوبات وتحديات وتنازلات.

وهذه التجربة، التي هي اليوم تاريخ مشترك لعموم المغاربة، تشكل عناصر رواية استراتيجية يرسمها المغرب حول نفسه ويسوقها كعلامة تجارية مميزة في المحافل الدولية والإقليمية، وشكلت عنصراً محورياً في الخطاب السياسي للخمس سنوات التي تلت دستور 2011.

المغرب بحاجة للإخلاص لروايته الاستراتيجية ليس فقط للاستمرار في كسب ثقة الفاعل الاقتصادي والسياسي داخل وخارج المغرب، وفي الحفاظ على النفس الإيجابي الذي واكب منطق الإصلاح في ظل الاستقرار، ولكن أيضاً لتخليص كاهل الدبلوماسية المغربية من ثقل الأعطاب الداخلية في مواجهة وضع غير مستقر مع دولتَي الجوار ومع المحكمة الأوروبية والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الإفريقية والأوروبية، في سنة انتخابات في أميركا ستأتي بأحد مرشحين أحلاهما مر للخارجية المغربية.

وإضافة إلى النفس التوافقي، فما جنَّب المغرب ما تعرفه دول أخرى بالمنطقة هو وعود التغيير التي انطلقت مع خطاب 9 مارس/آذار وما تلاها من حراك من داخل المؤسسات المنتخبة، وتنامي منسوب الاهتمام بالسياسة لدى عموم المواطنين وتوسع هامش حرية التعبير في الفضاءين الإلكتروني والعام، وتوسع هامش الثقة في قيمة التصويت الانتخابي.

والتخلي عن هذا الكسب الجماعي سيعطي إشارة للدائرة الدولية بأن الديمقراطية لا تصلح للمنطقة، وبأن البنية الفكرية والثقافية المحلية لا تقبل التداول الهادئ والموضوعي على السلطة، وبأن خطاب الاستشراق الذي تعج به الإنتاجات الثقافية الغربية لها قسط مقدر من الصحة والوجاهة، وأسوأ من ذلك سيمكن للفاعل الدولي التقاط الإشارة بأن القرار المحلي قابل للارتهان والخضوع للضغوط أمام غياب حائط الديمقراطية المحلية، كما أن التخلي عن هذا الكسب الجماعي سيعطي إشارة لشعوب المنطقة وسياسييها وصحافييها وأكاديمييها الذين مدحوا التجربة المغربية بأن النهوض والتقدم والدمقرطة دون انتكاسات غير ممكن، وبأن الانتكاس أصل وقدر لما تنتجه التربة المحلية من تفاعل سياسي، وإفشال التجربة سيعضض التخوف الذي تخفيه حالة الإنكار التي دخل فيها بعض السياسيين والشباب من خلال تأكيدهم على اختلاف التجربة الحكومية الحالية عن تجربتي عبدالله إبراهيم وعبدالرحمن اليوسفي، طمعاً منهم في أن تكون مرحلة 2011 – 2016 قنطرة نحو مغرب أفضل.

إن ما يدفع الفاعلين السياسيين الغيورين على الدمقرطة للخوف على مسار ما بعد 2011 الذي آمنوا فيه بإمكان التحقيق التدريجي للانتقال الديمقراطي هو مؤشر الردة المتمثل في الخرجات المتلاحقة لنماذج من التحكم التي قدحت حراك سنة 2011.

مثلاً، في الوقت الذي يقدم فيه حزب الأصالة والمعاصرة نفسه على أنه المنقذ لسفينة الوطن من غرق متوهم، يظن أن ذاكرة المغاربة لم يعلق فيها أنه حزب انتقل من ثلاثة مرشحين مستقلين إلى فريق برلماني في غضون أشهر؛ ليصير له وزير في الحكومة أشرف على المخطط الاستعجالي، رغم أن الحزب اختار المعارضة يومها، واليوم الأمين العام لنفس الحزب يقدم نفسه على أنه يحمل لواء اليسار لمحاربة الإسلاميين، وهو بذلك في آن يصادر تمثيل اليسار ويجعل الإسلاميين في وضع الدفاع، ويحشر اليسار والإسلاميين معاً في الزاوية، ولعل ذلك يفسر الخرجات الإعلامية الأخيرة لنبيلة منيب ومحمد الساسي المؤكدة أن "الأصالة والمعاصرة" لا يمثل اليسار، والحزب المذكور يفعل ما سبق رغم أنه حزب رخو بلا هيكل عظمي أو بنية تنظيمية واضحة المعالم، أي بالون ينفخ فيه ليتخذ شكل فزاعة؛ إذ لو كانت له بنية لتجلت في ديمقراطية داخلية يحتكم إليها في اختيار الأمناء العامين مثلاً، يضاف إلى ذلك في تشجيع فعاليات سياسية ومدنية للتعبير عن تخوفها على المسار الديمقراطي الجو الذي خلقته صعوبة ربط المسؤولية بالمحاسبة في قضية فساد واضحة مثل قضية خدام الدولة، وما قد يكون لها من شبيهات لم تكشف بعد.

كما أن نفس الأمين العام يتحدث بكل ثقة عن قيادته للحكومة المقبلة، متجاهلاً بأن حزبه لا هو قام بمعارضة قوية وواضحة تحدد اختلالات السلوك الحكومي وتقدم البدائل والمقترحات ليتم عرضها كتجربة على المغاربة، ولا هو كان في الحكومة فيتحدث عن الإنجازات ويقدم برنامجاً يتدارك ما نقص منها، وهو بهذه السوريالية التي تجمع بين الثقة والفراغ يهين دور مؤسسة الأحزاب في البناء الديمقراطي ويفقد المجهود المبذول في التأكيد على أهمية المؤسسات في بنية الدولة وفي تدبير العلاقات بين الفاعلين فيها الكثير من معناه. ولعل مما يبعث على التوجس أيضاً توقع أن يعود التماهي بين المؤسسات، ليس في الأهداف والمخرجات، فهذا مطلوب، ولكن أيضاً في البرامج والمنجزات، حتى تصير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية جزء من التصريح الحكومي، كما وقع في عهد حكومة سابقة، وإن كانت هناك من حاجة لإعادة تحديد المواقع والمسافات بين الفاعلين على مسار النضال الديمقراطي، فإن من يسعى لفرملة الإصلاح وتكريس الانتكاس أولى بالدعوة للتراجع خدمة للوطن.

إن أهم مسؤولية ملقاة على الطبقة السياسية اليوم هي تفويت الفرصة على أي خروج عن المنهجية الديمقراطية، فهي بذلك تعطي مبرراً لوجودها وتزيد في مصداقية دورها أولاً، لكنها أيضاً تعطي بارقة أمل للمنطقة بأن الاستثمار في الاستقرار يمكن أن يرافقه تحقيق الإصلاح والدمقرطة والتداول العادي على خدمة الصالح العام، ولو بتدرج معقول.

أما الفئة المثقفة، في سياق الانتخابات، فمن مؤشرات عضويتها -كما يفعل نعوم تشومسكي مع رئاسيات أميركا- تنبيه المثقفين والسياسيين لأدوارهم الديمقراطية، وتشجيع الناخبين على التصويت (على اعتبار الانتخابات محطة مؤثرة لا تتطلب أكثر من دقائق معدودة من كل فرد)، والترويج لنظرية "اختيار أخف الضررين".

السياق المغربي يمكنه التعامل مع النقطة الثالثة بنسبية وخصوصية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد