ورد في إحدى الجرائد الإلكترونية المغربية الصادرة بتاريخ 10 أغسطس/آب 2016 ما يلي: "آلاف الأطر التربوية يهددون بحرق شهاداتهم وأجسادهم في طنجة.. المسيرة الاحتجاجية ليوم الأحد المقبل ستعرف حرق نسخ من الشواهد، على أن يتم التصعيد في ما بعد بحرق النسخ الأصلية والوزرات… وعبر آيت الرايس (أحد المشاركين في المسيرة الاحتجاجية) عن استعداد الأطر لحرق أجسادها إذا لم تتم الاستجابة لمطالبها…".
لدينا مجموعة من التساؤلات بشأن هذا المقال: ألا تعتقد هذه الأطر التربوية أن التفكير في حرق الشهادات والأجساد ينم عن غباء منقطع النظير إن لم يكن الغباء بنفسه؟ إن أقدمت هذه الأطر على عملية الحرق المزدوج ماذا ستربح؟ أجساد مشوهة؟ الموت؟ التخلص من الشهادات الجامعية؟ بكاء مرير لأم حنون فقدت ابناً أو ابنة لها؟ خيبة أمل أب قدم الغالي والنفيس لتربية وتعليم الأبناء وفقد واحداً أو واحدة منهم في لحظة طيش استبدت بذاك أو بتلك؟ إننا نعيش في بلد نخره الفساد وفقد الكثير من شبابه الإيمان والأمل، إن هذا الفساد غول رهيب يتسرطن وينتشر في كل أجهزة ومفاصل الدولة، هناك من يطمح أو يحلم بالقضاء على الفساد، إن هذا مثير للسخرية والرثاء.
اسمعوني جيداً: إن نهاية الفساد تساوي انهيار الدولة، إن حاملي الشهادات العليا المعتصمين أمام البرلمان ليل نهار يحيلون على حالة اجتماعية تنضاف إلى هؤلاء الذين يعتزمون حرق شهاداتهم وأجسادهم، كلاهما يريد أن يحل المشكل بمشكل آخر، ويصر على تضييع الوقت.
هناك جزء أعظم من حاملي الشهادات يفتقر إلى الحلول العملية لمواجهة مشكل البطالة، إن أسابيع وشهوراً طويلة من الوقوف أمام البرلمان كانت ستثمر أكثر إن تم استغلالها في مجموعة لا منتهية من البدائل الفعالة: دورات تكوينية في اللغات والكومبيوتر، القناعة بالأعمال الصغيرة في انتظار الأفضل، البحث عن فرص للعمل في القطاع الخاص… إن بائع النعناع أو من يسرح بعربة التين الشوكي طيلة يومه وكله أمل في غد مشرق لأفضل حالاً، بل مائة مرة من هؤلاء، عندما تصل الدولة إلى الإفلاس: إفلاس الميزانية والحلول والأفكار الإبداعية وقيم تثمين العقول والطاقات الشابة، فإن الحل سهل وبسيط، وهو لا يحتاج إلى عصا موسى أو خاتم سليمان: البحث عن البدائل.
لا أريد أن يفهم القارئ من كلامي أني أدافع عن الظلم، ظلم الشباب وعدم الإنصات إليهم من طرف المسؤولين وصناع القرار، لا أريد أن يفهم من كلامي أني أدافع عن الحكومة، ليس لدي أي انتماء حزبي أو سياسي، إني من دعاة إيجاد الحلول في الحياة والبحث الدائم عن البدائل، لدي الآن على الأقل قصتان واقعيتان لشابين لم يمارسا لعبة الشكوى والتذمر من الظروف، بل كانا من أمهر الناس في مجابهة صعاب الحياة والبحث بذكاء وصبر عن مستقبل أفضل.
عندما نال عبدالحق شهادة البكالوريا بميزة حسن جداً بالعرائش، مسقط رأسه ومسرح طفولته وصداقاته وذكرياته، كان حلمه أن يدرس الإعلام والتواصل ويتخصص في الصحافة المكتوبة، لكن القدر لم يسعفه رغم علاماته الجيدة وتمكنه من ناصية اللغة، لم يستسلم عبدالحق لليأس، وحزم حقائبه ليدرس في تونس، أمضى هناك أربع سنوات وعاد إلى الوطن ليبحث عن عمل، ومرة أخرى لم يحالفه الحظ رغم عام كامل من البحث المضني، وهنا قرر عبدالحق أن لا يضيع مزيداً من الوقت، فجمع أغراضه من جديد وتوجه هذه المرة لفرنسا لأجل الحصول على دبلوم الدكتوراه في الإعلام والتواصل، وبفضل المولى تحقق الهدف.
لكن عبدالحق كان يحس دائماً أن كل نجاح يكون خارج أرض الوطن يظل ناقصاً، وأنه مثل الفاكهة المهجنة براق لونها لكنها بلا طعم؛ لذا قرر العودة إلى المغرب، واستنفد عاماً كاملاً في البحث عن عمل بأرض الوطن، لم يعرف اليأس إلى قلبه طريقاً، أرسل إلى الشركات والجامعات ما يزيد على 150 نسخة من سيرته الذاتية، وأجرى زهاء 10 مقابلات مع المشغلين، وأمكن له في نهاية المطاف أن يمتهن عملاً جيداً دون واسطة، لقد كان يؤمن دائماً أن الفساد راسخ في كل مكان وشبر من البلاد، ولكن ما كان يؤمن به أكثر هو أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن واقعية كل من يريد أن يخدم وطنه تقتضي أن لا يهرب من الفساد، بل أن يعيش بين مخالبه بقلب يفيض شجاعة وصبراً ومرونة.
القصة الثانية لصاحبنا سالم الذي يفضل أن يرويها بنفسه للقارئ: "كان نصيبي من الدراسة إجازة في العلوم الفيزيائية، حصلت عليها في مستهل عام 1999، لم تفاجئني البطالة ولم أندم على الشهور التسعة التي قضيتها في البحث عن عمل، كنت براغماتياً وغادرت سريعاً طانطان، مدينة الصبا والشباب والمنشأ، وقبلت أن أعمل في الصباغة والبناء، إضافة إلى السمسرة في العقارات، إني أربح من كل هذا ما يكفيني وأعيل بكرامة أبنائي وزوجتي المقيمين في طانطان، والذين أزورهم في كل عام مرتين، وما العيب في ذلك؟ إن ما يعيب الرجل في مجتمعنا أن يكون فارغ الجيب، قد يبدو لكم ذلك صعباً، لكني أعتقد أن دبلومي وإن لم يكن له علاقة مباشرة بما أزاوله من مهن، فإنه رغم كل شيء أنار لي الطريق ووضع بثبات قدمي في معترك الحياة، إن شعاري جملة واحدة أؤمن بها حتى النخاع: إن المفلس هو من ينتظر من الحياة أن تجود عليه دائماً بما يتوقع، والناجح من يخوض غمار اللامتوقع".
إن آلاف الأطر التربوية التي هددت بحرق شهاداتها وأجسادها بطنجة في أغسطس 2016 إذا لم تتم الاستجابة لمطالبها كان الأجدر بها أن تحرق كل أفكارها السلبية التي تحيل إلى أسلوب التهديد والعنف الرمزي اللامجدي والتواكل وفقدان الإيمان بالذات، إن بائع النعناع وصاحب عربة التين الشوكي وعبدالحق وسالم وغيرهم من الشبان الواقعيين الشجعان لأفضل حالاً ومآلاً، بل مائة مرة من هؤلاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.