منذ أكثر من ستة أشهر حذرت المنظمات الخيرية والسلطات المحلية من خطر المجاعة في بلدان القرن الأفريقي، وذلك بسبب الجفاف وقلة الأمطار خلال العامين الماضيين، والخوف إن لم تلقَ هذه التحذيرات آذانا صاغية، فسيعيد التاريخ نفسه كما حصل عام 2011، حيث كان هناك تحذيرات مماثلة لم يرد عليها أحد، انتهت بمجاعة محت العديد من المجتمعات المحليات وحصدت مئات الآلاف من الأرواح وخسارة ملايين الدولارات من زرع وماشية.
تلبية لنداءات التحذير هذه انطلقنا من بريطانيا.. ست منظمات خيرية تحت مظلة منتدى المنظمات الخيرية الإسلامية في رحلة تقييمية للوضع الإنساني والاحتياجات ولنحاول أن ننقل الصورة للعالم.
{وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} سورة الأنبياء الآية 30، لقد قرأت هذه الآية القليلة بكلماتها والعظيمة بمعناها مئات المرات، ولكن لم يخطر في بالي ولو مرة واحدة أنني سأراها أمامي حية تتحرك بنماذج وأمثلة تهز القلب والوجدان.
رأيت وجود الماء رمز الحياة وغيابه عكس ذلك، قطعنا مسافات طويلة في مناطق ضربها الجفاف بشكل مخيف داخل جمهورية أرض الصومال على الحدود مع إثيوبيا، الطرقات تشبه كل شيء إلا الطرقات ولا يمكنك أن تفرق بينها وبين الحقول والوديان لولا وجود بعض الحجارة المصبوغة تارة باللون الأزرق وتارة باللون الأصفر على جانبي الطريق لتنبهك إلى خطورة الأمر، وهي أكبر دليل على غياب أبسط مقومات البنية التحتية.
شممت رائحة الجفاف والموت في الهواء وعلى الأشجار وفي غياب زقزقة العصافير ولم أتصور يوماً أن أرى نباتات الصبار على جانبي الطريق ميتة وهي التي ولدت لمثل هذه المناطق الحارة الجافة، لم أصدق أن الجمال 'سفينة الصحراء' التي تقضي أشهر من دون ماء ستستسلم وتموت من العطش، فعلا الماء هو الحياة، للبشر والنباتات والدواب. قطعنا ستة أنهار عرض بعضها ما يقرب مائة وخمسين متراً، ولكنها جافة تماما وليس فيها آثار أو رائحة الماء حتى أن سياراتنا كانت تتجول داخلها.
كثيرة هي النعم التي أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها ونحن لا نقدر قيمتها، من أمن وأمان وماء وخضرة وغيوم تحمل الخير، حتى العصافير تطير بين الأشجار مغردة بالحياة، كل منا يتوقع أن من أبسط الأمور أن يجد طبيباً أو مستشفى عند المرض أو أن يفتح الحنفية ويجد فيها ماءً نظيفاً عذباً، دعونا من الآن وصاعدا كلما حصلنا على نعمة الماء أن نتذكر أن هناك الملايين من الناس محرومون من ذلك.
توقفنا في إحدى المناطق حيث وصل إليها ما يقرب من ثلاثمائة أسرة من رحالة إثيوبيا ومعهم أطفالهم ونساؤهم وما تبقى من أبقارهم وجمالهم والماعز، ساروا لعشرين يوما قطعوا 700 كيلومتر على الأقدام بحثا عن الغيوم التي سترشدهم للماء والخضار وللأسف دون جدوى، أغلبهم فقدوا مصدر عيشهم وما جمعوه طوال حياتهم واقصد هنا ماشيتهم.
التقينا بمحمد عمر صاحب التسعة وسبعين عاما، ترك زوجته المريضة وطفله البالغ ستة أعوام وانطلق يبحث عن الماء ومعه سبعون بقرة ومائة وخمسون من الخراف والماعز ما بقي منها سوى بقرة واحدة وعشرة من الماعز.
رأيت رجلا عجوزا جالسا على الأرض رافعا كفيه إلى السماء يدعو، كان يحمل في يده قارورة ماء، لونه أصفر لو لم يشرب منه سيموت من العطش ولو شرب منه سيموت من الأمراض.
وتلك السيدة الجالسة ترضع طفلها ليسكت وينام ولكن دون وجود حليب في صدرها، وذلك لضعف جسمها المنهك من قلة التغذية وانعدام وجود الماء. أما حليمة ابنة الثالثة عشر ربيعا، فكانت تحمل نعجة صغيرة بين يديها بحنان كمن يحمل طفلا فتعجبت وطلبت من أحد الزملاء من الإغاثة الإسلامية في الصومال أن يترجم لي ويسألها لماذا تحملها هكذا؟ فردت أنها ضعيفة متعبة لا تقوى على المشي ولو تركناها ستموت، واستغربت أكثر عندما رأيت أن أمها تحمل تحت ردائها نعجتين ضعيفتين لنفس السبب ولتحميهما من حرارة الشمس.
تأكد لي أكثر وأكثر أن ماشيتهم هي ثروة حياتهم ومصدر عيشهم ورزقهم وللأسف تموت أمام أعينهم وهم عاجزون على أن يفعلوا شيئا سوى المسير أسابيع بحثا عن الماء مصدر الحياة. أبهرني صبرهم ورضاهم بما أصابهم وبعدما رأيت لم أعد أقوى أن أقترب من أحدٍ منهم لأسأله عن قصته، وذلك خوفا من تقليب مواجعهم وزيادة معاناتهم فعلى وجوههم وفي أعينهم قصص تملأ مجلدات عن الالم والتحدي والحياة.
أنفق في إفريقيا عموما والقرن الإفريقي خصوصا المليارات من الدولارات على المشاريع الإنسانية، ولكن المأساة مازالت تتكرر! لقد حان الوقت للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية لتقدم حلاً طويل الأمد من خلال التركيز على برامج البنية التحتية وتجميع مياه الأمطار عبر بناء سدود محلية صغيرة وحفر الأبار العميقة وأخرى ضحلة واستخدام الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة ونقل المياه، وبذلك نساعد الناس وزراعتهم وثروتَهم الحيوانية وننتقل من الحلول المؤقتة من توزيع الأطعمة والأدوية، إلى إعطائهم المبادرة للعيش الكريم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.