لست هنا بصدد عقد مقارنة بين سياسة الرجلين وطريقة حكمها، ولا عد إنجازات وإخفاقات الرئيسين، فالساحة السياسية تضج بالمزايدين سلباً وإيجاباً الذين لا همّ لهم إلا الاصطفاف والانتصار لمن تهواه أنفسهم، وكأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً هم غير معنيين بصناعة أحداثه، بل قد لا يفكرون أصلاً بلعب حتى دور "الكومبارس" فيه.
الحكم بالصندوق وليس بـ"البندوق"
وأنا أتابع اللحظات الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، لا أخفيكم أني أصبت بغصة وكدت أكفر بالديمقراطية، فإنجازات أردوغان في تركيا لا ينكرها حتى ألد خصومه السياسيين، فكيف يمكن أن يتم الانقلاب عليه؟ لكن سرعان ما استدركت وقلت إن قبل الشعب بهذا الانقلاب، فلتذهب إنجازات أردوغان إلى الجحيم، فنحن لسنا أعلم من الأتراك بحالهم.
تطورات الأحداث في تركيا بيّنت أن أردوغان نفسه استنجد بالشعب، وطلب منه النزول للميادين لإحباط الانقلاب.. بقية الأحداث يعرفها الجميع، والخلاصة أن الشعب هو من أحبط الانقلاب.
الشعب بكل تياراته أحبط الانقلاب؛ لأنه آمن بأن تركيا الجديدة لا تقبل حكم العسكر، وأن معالم النظام السياسي باتت من الثوابت، الذي يريد الوصول إلى الحكم عليه الاعتماد على صندوق الانتخابات لا أن يعتمد على حكم "البندوق"، كما صرح ذات يوم جنرال الأزمة الجزائرية بامتياز.
رابعة أردوغان:
أردوغان الذي آمن بشعبه قبل أن يؤمن به شعبه وراهن على وعيه وفاعليته، راح يردد في كل خطاباته الجماهيرية أن تركيا الجديدة لن تقبل بالعودة أدراج التاريخ، وصار يذكّر الجميع بأن لشعب تركيا "رابعة" مقدسة، كما قال، فإن رابعة "التركية" تعني أولاً الأمة الواحدة، وثانياً العلم الواحد، وثالثاً الوطن الواحد، ورابعاً الدولة الواحدة.
سنجد لا محالة كثيراً من الأتراك يشككون في أردوغان بخصوص إنجازه لـ"رابعة" التركية، لكن هذا لم يدفعهم لخذلانه وقبول الانقلاب عليه.
فحتى وإن كانت الأركان الأربعة لهذه المقولة لم تتحقق كلية إلا أن مجرد جعلها هدفاً للشعب التركي والسعي لتحقيقها سمح بلم شمل الأتراك، فالشعب التركي يكون بهذا قد طبق قاعدة في غاية الأهمية بالنسبة للأمم الواعية، وهي القاعدة القائلة بأنه حال اجتماع الأمة على الصالح فلا يجوز تفريقها على الأصلح.
بوتفليقة.. وقصة المصارع "الروماني"
بالنسبة لنا كجزائريين، الرئيس بوتفليقة يناصف عهدته الرّابعة وقد نختلف في تقييم فترة حكمه، لكن إذا استثنينا حجج المتزلفين وآراء المعادين وحاولنا أن نتوسط بين ذلك سبيلاً، لعلنا نكتشف مكمن الخلل ونركز فيما من شأنه بعث جزائر "جديدة" فسنجد من الشواهد ما يلقي بالمسؤولية الكبرى في سير الجزائر نحو مستقبل آمن على عاتق الشعب، فكلنا نحفظ قول الشابّي: (إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر).
سنة 1999 وفي واحد من أشهر خطابات الرئيس بوتفليقة، أمام حشود بالآلاف، راح يدافع عن خياراته في مراعاة التوازنات الكبرى داخل مؤسسات الحكم في البلاد، واعترف بأن الوضع صعب، وأن البعض يتكلم عن عدد من الجنرالات المتنفذين سياسياً واقتصادياً، ثم صاح في سامعيه: "باغيني ندير ثورة وحدي؟ وأنا وحدي واش ندير؟ تخلوني نحارب السبع وحدي.. إذا قتلت السبع تصفقوا عليا، وإذا كلاني السبع تصفقوا على السبع".
تشارف عهدة الرئيس الرابعة على النهاية، ولن نغوص في تعداد الإنجازات أو الإخفاقات، فالذي يعنينا اليوم هو الشعب الجزائري ودرجة استيعابه لحساسية المرحلة التي تمر بها البلاد. هل يبقى متفرجا أم سيسعى للحفاظ على المكاسب ولو على قلّتها ويعمل على أن لا تعود الجزائر أدراج التاريخ؟ هل نحن اليوم واعون بأن كل مواطن تقع عليه مسؤولية الدفع نحو مزيد من الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي، وطبعاً هذا لا يلغي مسؤولية السياسيين ومؤسسات الدولة، لكن الرهان دائماً على الشعوب، كما رأينا في المثال التركي هذه الأيام.
رابعة بوتفليقة.. والدولة المدنية
في الفترة الأخيرة، طفا إلى السطح رهط من السياسيين وأشباه السياسيين، وصار الكل يصيح بأن العهد القديم قد ولى، وأن الجزائر تضع اللمسات الأخيرة على "عهد الدولة المدنية"، عهد سيكون الشعب وحده السيد وصاحب القرار!
أعتقد أننا كمواطنين جزائريين، علينا أن نصدق هذا الكلام، نعم فلنصدقه ولنعمل بمقتضياته حتى وإن كان البعض يرى فيه أكذوبة وموالاً انتخابياً لا أكثر، عندما نصدق هذا الكلام فنحن لسنا نتغابى، وإنما سنعمل على تحقيق الدولة المدنية رغم أنوف المراوغين.
عندما يباشر الشعب دوره كاملاً بحجة أن الجميع يصف الجزائر بالدولة المدنية، لن يقبل بمصادرة أصواته، ولن يدع المراوغون يصوتون مكانه، لن يقبل الشعب الذي يعيش في دولة مدنية بقوانين تقوض حرياته، ولن يسمح بتطبيق برامج سياسية أو اقتصادية لا يراها في خدمة مستقبل أبنائه.
ليس من حقنا كمواطنين أحرار أن ندع الساحة لأشباه المواطنين، بحجة أن الوضع السياسي غير مشجع، فالشعب التركي صدّق "رابعة التركية" ولم يلتفت إلى النقائص حين حاول البعض الانقضاض على الدولة، بحجة أن الوضع السياسي للبلاد لا يسير كما يروج له أردوغان وحزبه.
ينبغي علينا كجزائريين أحرار أن نمدّن الدولة، وأن نرسم مجال تحرك كل الفواعل السياسية عن طريق ممارسة حقوقنا وأداء واجباتنا.
لست هنا أهذي، فالشعب هو الضامن الوحيد لمستقبل الدولة، الشعب الحر هو من يعيد رسم الخارطة السياسية، رغم أنوف الجميع من ساسة وعسكر.
كم هو جميل منظر الشعب التركي وهو يرفع علم بلاده، ويبكي بكاء الفرح بعدما أنقذها من الفوضى والانهيار.
إن كان لا بد أن نبكي يوماً ما فلنجعلها دموع فرح، فالشعب إن أراد أن سيستجيب له القدر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.