رابعة التي لم أمرّ بها.. فمرت بي

كتبت على الفيسبوك ساخراً: "يعلنونهم بالفض، ويفتحون لهم ممراً آمناً، ويعطون الأمان لمن يغادر قبل بدء عملية الفض، لِمَ يولول هؤلاء؟ لا يعرفون الفض كيف يكون"، بعد دقائق فوجئت برسالة من صديق إخواني: "لو مت ما تمشيش في جنازتي" مصحوبة باختفاء هويته لديَّ، حظرني على الفيسبوك، حاولت الاتصال به لتهدئة الخلاف، رد بعد عدة محاولات ليخبرني بعصبية أنهم يقصفون من كل جانب، الجميع يقتل بلا هوادة، "أطفال صغيرة بتموت جنبي"، اعتذرت له، مسحت كلامي حتى يتبين الأمر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/17 الساعة 05:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/17 الساعة 05:32 بتوقيت غرينتش

لم أرَ يوماً أن اعتصام رابعة كان يحق له الاستمرار، رغم عزوفي عن المشاركة في مظاهرات الثلاثين من يونيو/حزيران، لكنه كان عزوفاً ناجماً عن نظرة تشاؤمية متخاذلة، لا عن موقف مخالف، كنت أرى أن الأسوأ قادم وحسب، لكني سعدت بسقوط مرسي، كما أبطلت صوتي قبلها في إعادة انتخابات الرئاسية متمنياً فوزه أو بالأحرى خسارة شفيق، في الحالتين رفضت الاختيار بين خيارين أحلاهما مر، لكني تمنيت واحتفلت بانتصار هذا المر الأحلى، عموماً هذه مثالية سلبية من أكبر بلاوي المنتسبين للثورة، التسامي الأخلاقي الفارغ عن الواقع وما تفرضه صراعاته من خيارات.

في الحقيقة شاركت بمشهد كوميدي عابر -أفخر به لليوم- في تظاهرات الثلاثين من يونيو، كنت أتسكع مع أصدقائي في شوارع مدينتنا الواقعة في محافظة البحيرة، رأينا مظاهرة قوامها العشرات من أبناء المدينة تهتف بسقوط مرسي، ثمة هتّيف يتقدم الجمع ويحمل له الميكروفون الشخص الذي كان مسؤولاً عن حملة أحمد شفيق في المدينة، استفزنا المشهد، بسرعة أعدت صياغة هتاف شهير "يا دي الذل ويا دي العار، الفلول عاملين ثوار"، ودفعنا بأحدنا للمقدمة، توجه للهتاف، وقف مسؤول الحملة السابق بجانبه حاملاً الميكروفون ومردداً خلفه مع العشرات "يا دي الذل ويا دي العار"، كررها صديقي والجمهور خلفه مرتين، قبل أن يلقي بمفاجأته "الفلول عاملين ثوار"، ردد الجمهور بينما انسحب حامل الميكروفون مشيحاً بابتسامة بالغة الحرج والانهزام، رأينا فيها انتصارنا الصغير ومسخرة ليلتنا، قبل أن نواصل التسكع.
***

لم أرَ يوماً أن اعتصام رابعة كان يحق له الاستمرار، كنت أقول لأبي: هؤلاء المعتصمون هناك يتحدثون عن رش أمثالي بالدماء إذ جرأنا على رش مرسي بالماء، يتحدثون بطائفية مقيتة عن أغلبية نصرانية في مظاهرات معارضته، وعلى مدار أكثر من عام هللوا دوماً، وخلفهم رئيسهم، لقمع الشرطة لنا، وطالبوها بالمزيد، تحالفوا مع كل أعداء الثورة قبل أن يغدر بهم هؤلاء الآخرون، وصل الأمر حد التهليل لإزهاق أرواح بعض معارضي الرئيس، واعتبارهم بلطجية يستحقون، تخيل، "جيكا" الذي قاد مظاهرة في التحرير تحتفل بفوز محمد مرسي، كانوا يسخرون منه "شهيد اسمه جيكا؟"، قبل أن يعودوا ليهتفوا له هو ومينا دانيال -النصراني- في مظاهراتهم ضد السيسي، قلت له باختصار هؤلاء ربما معتصمون؛ لأنهم لم ينالوا كفايتهم من التنكيل بنا، يدركون كيف كان ذاك العام وبالاً علينا فيتوعدوننا بسخرية وثقة -تنم عن بلاهة بالغة- بسبع سنين أخريات لمرسي وثمانية لـ"أبو إسماعيل"، الصورة الأكثر تطرفاً في ذهن الجميع، لماذا أتعاطف أو أكترث لموت من يفرح لموتي في سبيل استمرار مشروعه أو نظامه؟
***
علاقتي المباشرة برابعة -بخلاف وجود بعض الأصدقاء فيها- كانت تحمل تكديراً شخصياً وأنانياً يضاف لكل تلك الخلافات العمومية مع أهله، كنا وقتها نسكن شقة تملكها عائلة صديق تشارك في الاعتصام، وكانت الشقة استراحتهم إذا ما رغبوا بالابتعاد عن الميدان، وكان هذا يعني لنا البحث عن أماكن أخرى للإقامة في أيام استراحتهم.
***
أشرقت علينا شمس الرابع عشر من أغسطس/آب 2013 ونحن لم ننَم بعد في إحدى سهراتنا الصبّاحي، فوجئنا بالتلفزيون يعلن بدء إجراءات فض الاعتصام، تابعت اللحظات الأولى على القنوات المصرية، كتبت على الفيسبوك ساخراً: "يعلنونهم بالفض، ويفتحون لهم ممراً آمناً، ويعطون الأمان لمن يغادر قبل بدء عملية الفض، لِمَ يولول هؤلاء؟ لا يعرفون الفض كيف يكون"، بعد دقائق فوجئت برسالة من صديق إخواني: "لو مت ما تمشيش في جنازتي" مصحوبة باختفاء هويته لديَّ، حظرني على الفيسبوك، حاولت الاتصال به لتهدئة الخلاف، رد بعد عدة محاولات ليخبرني بعصبية أنهم يقصفون من كل جانب، الجميع يقتل بلا هوادة، "أطفال صغيرة بتموت جنبي"، اعتذرت له، مسحت كلامي حتى يتبين الأمر.

هذا الصديق رغم أن كلا منا كان دوماً متعصباً لأفكاره بشكل مزعج للآخر، ورغم أننا لم نكن مقربين يوماً، فإنه قبيل الثلاثين من يونيو نشر على صفحته أنه إذا تطور الأمر لاشتباكات يوم 30 فالشخص الوحيد الذي لن يتمكن من مواجهته وسيهرب منه إذا رآه هو أنا، في عز ذاك الاستقطاب وانتشار خطاب الكراهية وتقبل العنف بين المعسكرين وقتها، كان موقفاً نبيلاً، وعاطفة مؤثرة، طمأنته أني لن أشارك، ربحنا الصداقة، وخسرنا البلد.
***
بانتصاف النهار بلغنا خبر وفاة والد صديقنا عمر علي، كان هذا أول ما يفزعنا من أنباء الموت مباشرة في أحد ذوينا، بدا الموت لحظتها يزحف مجنوناً وقريباً للغاية، حتى على من ظن مثلي أنه بعيد عن دائرته، من توهم مثلي -في لحظة عناد بالغة الغباء- في عنف الأجهزة الأمنية المصرية عقلاً ورشادة، من ظن في نفسه في لحظة عمى تام للبصيرة – القدرة على اللامبالاة بالاعتصام ومَن فيه، زحف غول الموت مجنوناً وأعمى كما لم نرَه في حياتنا، نحن الذين تشكلت سنوات وعينا بين المذابح والقضبان.

عمر الذي لم أشاركه سوى لعب الاستميشن وبعض المسلسلات الأجنبية والكثير من السهرات الماجنة والنكات البذيئة، يقضي الآن عقوبة بالسجن المؤبد بحكم محكمة عسكرية، حينما علم ضباط المخابرات باستشهاد والده في المذبحة زادوه تعذيباً، يبدو مقتل والده في موازينهم جريمة تدينه هو ووالده ﻻ العكس، فكيف للقتيل إذن أن يكفر عن جريمته في حق قاتله؟ هل نقتل المزيد من رفاقه وذويه؟ ولكنهم بذلك يرتكبون المزيد، قد ينبغي على القتلى أن يبادروا بقتل أنفسهم ويكفوا عن ارتكاب الشهادة على يد قاتليهم.
***
لم أرَ يوماً أن اعتصام رابعة كان يحق له الاستمرار، أعزّي نفسي بأني تراجعت عن تأييد عملية الفض في سويعاتها الأولى، لكني لا أنسى لها أنني ظللت شهراً كاملاً أهيئ نفسي لحدوث الفض وأؤيده، تعلمت إذن ولكن بالطريقة الصعبة، كيف ينبغي للإنسان أن يعلي مبادئه التي قد يستمد منها قيمته واحترامه لذاته قبل أن ينتصر بها لأي شيء – حين يقع تحت طائلتها مَن هم يعادون حتى تلك المبادئ، لا تصبح المبادئ مبادئ حين تكون لمن وافقها فقط، تصبح إذن أهواءً وعصبيات، ربما لم يتغير رأيي في المعتصمين، خطابهم ومطالبهم، ولكن حتماً تغير في الاعتصام ذاته، كان ينبغي لاعتصام رابعة الاستمرار، حتى يقرر المعتصمون وحدهم متى ينفض.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد