الإنسان يبحث عن المعنى

هنا يخبرنا الكتاب في أسطر بأن الإنسان الذي يجد في مسيرته معنى أو هدفاً يسعى إليه، فإن وجوده يصبح ذا أهمية حقيقية، وتستحق حياته أن تعاش، وبالتالي فهو يسعى لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها، ففي حياة البعض كان المعنى هو ما يحملونه من مشاعر إنسانية تربطهم بالآخرين، ولدى البعض كانت الموهبة التي تميزهم، وهناك آخرون تمسكوا بالذكريات معنى لوجودهم، والبعض وجد المعنى في العطاء.. على هذا يمكننا القول إن الحياة تحمل زخماً من المعاني التي لا تحصى

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/16 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/16 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش

"أيعقل أن شخصاً مثقفاً واعياً لم يطالع هذا الكتاب؟" هذه هي الجملة التي أخذتني إلى الكتاب فوراً عندما سمعت عنه للمرة الأولى، في الحقيقة يتميز الكتاب بعمق وكثافة معانيه، مع هذا يظل الحصول على الكتب الرائعة رهناً بالبحث والمصادفة معاً، لكن أي معنى كان، ذاك الذي يقصده يا ترى؟

يتحدث الكتاب عن تجربة اعتقال غاية في التطرف والقسوة، إنها من الأحداث التي لا تمر إلا بنسبة واحد من مائة ألف أو يزيد من البشر، فإذا أضفنا لها ذاك الثراء الفكري الذي يسمى "كتاب" بقلم طبيب نفسي هو ذاته صاحب التجربة، ليصف لنا طرق التكيف والمقدرة التي أعادته للحياة مجدداً، تصبح قيمة مطالعته مضاعفة إلى أضعاف كثيرة.

وعلى الرغم من أن الكتاب وصاحبه "فيكتور فرانكل" الذي يؤسس للمدرسة النمساوية الثالثة في الطب النفسي، يتناول التجربة التي تعرض لها آنذاك في أحد المعتقلات النازية من جانبها السيكولوجي، فإن هدف مقالتي سيكون أكثر تعميماً وأبعد عن التخصيص العلاجي، بسبب من أن هموم الإنسان بحياته، وقلقه بشأنها، ومتاعبه لإثبات جدارتها، لا يعدو كونه ضيقاً معنوياً أو روحياً غالباً، وليس بالضرورة بحال أن يكون مرضاً نفسياً أو ما شابه ذلك.

وبالتالي فإن القدرة على التعايش كأسلوب حياة قيمة عظيمة لا تقدر بثمن، حيث يمكن أن نصف هذا التعايش مع مواجهات الحياة ومصاعبها بأنه نظرة واعية للأمور بعيداً عن التعقيدات والقلق، وامتلاك لقوة الإرادة التي تعزز عملية التكيف والتجديد، ومن وجهة النظر البيولوجية يقيم هذا الطرح على أنه العامل الحقيقي للصحة وطول العمر، إذ إن التعامل مع التغيرات السلبية المفاجئة بطريقة إيجابية خلاقة، بعيداً عن رد الفعل الموغل في الكآبة التي تمنع نشاط العقل الواعي وتشوش الإدراك، من شأنها أن تمنحنا الاتزان اللازم لمواصلة الحياة، لكن بعض تجارب الحياة تتفرد باستثنائية لتذهب أبعد من كونها تجارب تمر بمعظم البشر.

هنا يخبرنا الكتاب في أسطر بأن الإنسان الذي يجد في مسيرته معنى أو هدفاً يسعى إليه، فإن وجوده يصبح ذا أهمية حقيقية، وتستحق حياته أن تعاش، وبالتالي فهو يسعى لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها، ففي حياة البعض كان المعنى هو ما يحملونه من مشاعر إنسانية تربطهم بالآخرين، ولدى البعض كانت الموهبة التي تميزهم، وهناك آخرون تمسكوا بالذكريات معنى لوجودهم، والبعض وجد المعنى في العطاء.. على هذا يمكننا القول إن الحياة تحمل زخماً من المعاني التي لا تحصى، لكن سر التفاوت في نجاحنا حيال فهمها واستقرائها، وغاية الاستفادة من آثارها ومنحها بما ينعكس بإيجابية على الحيوات التي نعيشها، هو إدراكنا الحقيقي لتلك المعاني وقوة تمسكنا بها حيث نعثر عليها لتثمر.

إن الأديان السماوية أنزلت جميعها بمفاهيم مكثفة لمعنى الحياة، وبسبل واضحة لإرشاد العقل بعيداً عن مشقة البحث، لكن رحلة الحياة الفعلية ما هي إلا حلقات موصولة من التجارب الشاقة والعنيفة أحياناً، تأخذنا عنوة لتفقد ذاك المعنى، فمن لم يقده إدراكه، تقوده تجاربه، إن المعنى المقصود هنا أشبه ما يكون بالتعبئة الروحية، التي تنجم عن قوة المعتقد.

يقول فرانكل: (إن الوجود الإنساني هو بالضرورة تسامٍ بالذات وتجاوز لها، أكثر من أن يكون تحقيقاً للذات؛ لأن تحقيق الذات ليس هدفاً ممكناً على الإطلاق، وذلك لسبب بسيط وهو أنه بقدر ما يسعى الإنسان إليه بقدر ما يخفق في الوصول إليه) لماذا؟

قد سألت نفسي أيضاً عن السبب، فقادني السؤال لآخر، أليست ذواتنا في وجودها المدرك مجموعة مستمرة من الأهداف، والآمال، والأماني كلما بلغنا أحدها قادنا بالضرورة لآخر، دون أن يلوح في الأفق أي تصور للنهاية، عدا تلك النهاية الحتمية المؤجلة التي يدركها العقل ويستبعدها على الدوام. إن الحياة الإنسانية برمتها تتردد بين مشاق الضيق والملل، فتحدث لنفسها سبلاً لما يسمى بتحقيق الذات لا تنتهي بحال، لكنها تتبلور في مكون واحد يمكن أن نسميه المعنى من الحياة، أو المعنى لأجل الحياة، ولأن هذه الحقيقة تتسم بالهُلامية إلى حد ما، كان تجاوزها إلى الحقائق الأكثر ثباتاً والأقدر على الدعم والمساندة أجدر ما علينا القيام به.

لكن المشكل على الفكر الذي يتطرق له الكتاب بتفصيل أكثر، إنه في لحظة ما من ثقل التجارب المريرة قد يفقد المرء ذاك المعنى فيفقد بالتالي أسباب الرغبة في الحياة، ويقع فريسة اليأس، هنا يقدم فرانكل طرحاً آخر للعلاج بالمعنى؛ حيث يوجه الإنسان إلى البحث عما تطلبه منه الحياة، لا ما يطلبه هو منها؛ ليتسع المعنى ويغدو أكثر شمولية، حين يضعه أمام مسؤوليات جديدة غير مألوفة لديه، فيصبح جديراً بالمعاناة التي يعيشها، عندما يتمكن من تجاوز قدره الخارجي، ويعلو فوق متاعبه الشخصية.

إن تجربة معسكرات الاعتقال على ضراوتها، تؤكد حقائق الحياة كمجال اختياري متسع، بأن الإنسان الذي يحمل في سلوكه طابع الشر والخير، هو ذاته المسؤول الحقيقي عن مسلكه تجاه مسؤولياته، وأن ما ينجم عنه من تصرفات تكون رهناً به ذاته، لا بظروفه التي يعيشها، وإن مقدار الحرية النفسية التي نعيش بها ومصداقية تقييمنا للأحداث والأشياء، متوقف تماماً على تحررنا من الآثار والأحكام التي تمخضت عن تجارب الماضي، والنظر إليها على أنها تدرجات عرجت بنا سلم النضج ارتقاء، على هذا النحو فإن الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على إبقاء الوعي والإدراك مفتوحاً على مصراعيه، لتأكيد الثوابت التي يؤمنون بقيمتها، والتعامل مع الحقائق والمتغيرات بكل صدقها وثقلها، هم ذاتهم من يتميزون بطريقة تحليل فذة في مجمل ما يتلقاهم من الخطوب والأحداث، لأنهم لا يصدرون أحكامهم جزافاً، بل هم أبعد ما يكونون عن التهور.

* "الإنسان يبحث عن المعنى" اسم لكتاب يحمل دراسة فريدة موغلة في العمق، عن تجربة الحياة في معسكرات الاعتقال النازية، لصاحبه الدكتور فيكتور فرانكل أستاذ بجامعة فيينا، ومؤسس المدرسة الثالثة في العلاج النفسي بالمعنى، بعد مدرستي فرويد، وإدلر النمساويتين.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد