“رابعة” هي القلب

ما حدث في هذا اليوم لم يكن مذبحة للمعتصمين، بل كان مذبحة أخلاقية وقيمية واجتماعية، لم ينقسم الشعب كما انقسم في هذا اليوم، ما حدث فيه لم يمزق الأبدان بل مزق النفوس، مزق المبادئ، مزق الروابط، مزق الآدمية، مزق كل طاقة تحمل كل فرد للآخر، لأول مرة نرى هذا القدر من الكراهية والسخط، لأول مرة نرى هذا القدر من التلاعب بالعقول دون سقف

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/15 الساعة 03:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/15 الساعة 03:51 بتوقيت غرينتش

رزقنا الله بـ"رابعة"؛ لتكون خط الأفق بين السماء والبحر، الحد الفاصل بين الأبيض والأسود، فهي علامة فارقة وبصمة لا تنسى، إن "رابعة" ليست في القلب، بل إنها هي القلب.

كنت ممن سعدوا باعتصام المؤيدين للرئيس مرسي برابعة، وإن لم أحظَ بشرف أن أكون بينهم، بل إني لم أحظَ بشرف نزول أي مظاهرة أو الانضمام لأي عمل ثوري، كنت وما زلت من حزب كنبة الثورة، هؤلاء الذين لا يملكون سوى الثرثرة؛ لكني تابعت ككثيرين باهتمام بالغ أحداث ثورة يناير/كانون الثاني وما تلاها، إلى أن وصلنا إلى رابعة وما بعدها.

أول سؤال سمعته من المقربين بغضب شديد: لماذا خرجوا؟ أيعتبرون أنفسهم دولة داخل الدولة؟

أذهلني السؤال حقيقة!! ففي ظني لم يطرح سؤال كهذا على مؤيدي مبارك حين خرجوا في ميدان مصطفى محمود لتأييده -ولا وجه للمقارنة بين رئيس منتخب ورئيس أمر واقع- فكان جوابي: لم أسمعكم تعتبون على من سكنوا ميدان التحرير لعام كامل هي مدة حكم مرسي، ثم لم تلوموا عليهم خروجهم ولا تلومون أنفسكم إن خرجتم في (ثورة) ضد الرئيس! فلم يرد أحد!

كان خروج الناس رفضاً للانقلاب بمثابة رئة يتنفس بها أنصار الشرعية الذين لم يكونوا جميعاً من فصيل الإسلاميين، كما أُشيع، فمن خرجوا كانوا من كل الأطياف، إسلاميين وليبراليين ومسيحيين وأحزاب وحركات ومن لا انتماء له، كان هؤلاء هم من غرر بهم وصدقوا مبادئ الديمقراطية التي دعا إليها علمانيو مصر ووضعوها أساساً للاحتكام بين القوى السياسية، من خرجوا هم من صدقوا أن يناير كانت ثورة، وأن السلمية تصنع المعجزات، وأن كلمة الشعب هي العليا، ثم ظهرت لهم الحقيقة جلية هناك.. في ميدان رابعة.

انتشرت المنشورات على مواقع التواصل بأسماء القنوات التي تبث من رابعة مباشرة، وهرعت إلى كل من أعرف أطلب منهم أن يتابعوا هذه القنوات ليعرفوا حقيقة ما يدور هناك، فقوبلت بإهمال ولا مبالاة، وفاتني أن جلسات مجلس الشعب كانت تبث نهاراً فيتركونها ليشاهدوا إعلام المسيح الدجال ليلاً، وأن خطب مرسي كان يقرأها في الصباح فلا يلقوا لها بالاً؛ ليلتفوا في المساء والسهرة حول برنامج باسم يوسف؛ ليضحكوا ويتضاحكوا ملء الأفواه.

في كل يوم كانت تخرج المسيرات سلمية، فتعود حاملة جثث الشهداء (بإذن الله)، ثم يشاع أن من كانوا يخرجون كانوا يحملون السلاح!

كانت مذبحة الحرس الجمهوري تمهيداً لمذبحتي رابعة والنهضة، أو فلنقل كانت "جس نبض"، أصيب كل من تابعوا هذا اليوم بالذهول، فلأول مرة نرى كل هذه الدماء!! كان البث مباشراً من المستشفى الميداني، كانت هناك أنهار دم دون مبالغة، كانت الإصابات أصعب من أن يتم علاجها بشكل مبدئي، وكان الناس يخشون ركوب سيارات الإسعاف؛ لأنها ستأخذهم إلى السجن، فتزايد عدد القتلى فكفنوهم وصلّوا عليهم. اختصرت اليوم كله جملة بسيطة قالها أحد الثوار البسطاء: (السيسي طلع بشار)! ومع هذا لم يدُر بخلد أي من المعتصمين أن يمسحهم جيش بلادهم، المكون من أبنائهم المجندين، من على وجه الأرض ببلدوزرات!

قال قادة العلمانيين الذين رفضوا المشاركة في حكومة مدنية بعد الثورة وهرعوا ليقبلوا المناصب التي عرضها عليهم العسكر بعد الانقلاب تمهيداً لتسلم الحكم كما أملوا، إنهم لم يتوقعوا أن يتم الفض بهذا العنف، وكأنهم لم يمهدوا لذلك بفيروس الغل الذي حقنوا به الناس لعام كامل، وكأن قادتهم الكبار سناً الذين خبروا (ثورة) 23 يوليو/تموز لم يروا كيف فعل عبدالناصر بمعارضيه، بل كيف فعل برئيسه محمد نجيب، أصدق أن ما حدث ربما فاق تخيل الجميع، ولكن ألم يكن القتل والعنف والتنكيل والاغتصاب متوقعاً أياً كان الأسلوب؟!

تابعت ميدان رابعة كما تابعت ميدان التحرير من قبل، فكنت تقريباً لا أنام، وخصوصاً بعد هيستريا التحريض التي تم شحن الجمهور بها إلى أن جاء يوم الفض الذي كنت أتوقعه ولا أرجوه.

ما حدث في هذا اليوم لم يكن مذبحة للمعتصمين، بل كان مذبحة أخلاقية وقيمية واجتماعية، لم ينقسم الشعب كما انقسم في هذا اليوم، ما حدث فيه لم يمزق الأبدان بل مزق النفوس، مزق المبادئ، مزق الروابط، مزق الآدمية، مزق كل طاقة تحمل كل فرد للآخر، لأول مرة نرى هذا القدر من الكراهية والسخط، لأول مرة نرى هذا القدر من التلاعب بالعقول دون سقف، ولأول مرة تنكشف لنا السيقان الصناعية التي يقف عليها الكذب، شاهدنا في هذا اليوم مَن خرجوا من قبل مطالبين بالشريعة يعتزلون، ومن طلبوا الديمقراطية يتلونون، شاهدنا من كانوا لنا مثلاً وقدوة، من علمونا القيم في أسوأ رداء لهم، شاهدنا وجوهاً لامعة تسود، وأصواتاً كانت تسلب القلوب تنبح، ما هذا أهي نكسة يونيو/حزيران حلت من جديد؟! أهؤلاء الذين يسيرون في صف كالأسرى مصريون؟! أهي حرب من طرف واحد تدور رحاها في ميدان ليس بميدان معركة؟! أهذا هو جيش مصر الذي ما صدقنا فيه قولاً؟! أهذه مصر التي ما خرجنا منها إلا وشعرنا بخواء الروح؟!

تابعت بهلع مشاهد الفض على الشاشة وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وإنني لهول ما قرات كنت أكذب بعض الروايات ويا لفزعي حين كنت أشاهد مقطع الفيديو الذي يؤيد ما كذبت.

سمعت بعدها تبريرات المفوضين بأن تلك صور من سوريا وليست من مصر، إذاً فلِمَ لم يكلفوا أحداً بسؤال أهل رابعة أنفسهم إن كان ما حدث محض خيال أم حقيقة؟، وشاهدت ما قالوا بأن هناك أسلحة ضبطت برابعة، ولا أعلم لِمَ لَمْ يستخدمها المعتصمون إن كانوا يملكونها فعلاً؟ ولكن لا عجب، فعقول تقبل فكرة وجود كرة أرضية تحت رابعة تقبل أي شيء، شاهدت جثث القتلى ملقاة أمام مسجد رابعة المحترق، وقالوا إنهم استخرجوها من تحت المنصة التي اعتقل المراسل عبد الله الشامي بسبب تقريره الذي يثبت أن هذا محض افتراء.

كان مشهد حريق رابعة الهائل الذي تم تصويره بالطائرة مزلزلاً للقلوب، ومنظر الجثث المحروقة في خيام النهضة قاتلاً لكل مَن له قلب يشعر.

يقول العائدون من معسكر الانقلاب إن رابعة موقف إنساني، وإنهم يتضامنون معها؛ لأنها تمس ملف حقوق الإنسان، ويا لعجيب هذا الوصف "موقف إنساني"!

نحن هنا لا نتحدث عن مجاعة تطحن شعباً أو وباء متفشٍّ أو تسونامي ضرب أحد البلاد، نحن هنا نتحدث عن قضية شرف، عن قضية وطن، عن رفقاء ثورة استخدموا وسيلة أنتم من وضعتموها للاحتكام بين الفصائل، فلما وصلوا لما كنتم تظنون أنهم سيرفعونكم إليه اتهمتموهم بالسرقة والكذب والخيانة، وألصقتم بهم كل نقيصة، وفى النهاية قتلتموهم بيد من ثرتم معاً عليه. ولمن يرى كلامي مبالغاً فيه، أتمنى أن يمتلك الشجاعة ليشاهد ما حدث في رابعة سراً بينه وبين نفسه، قد يفهم بعدها حجم الجرح في صدور أهل "الشرعية" الذين خرجوا للدفاع عن حق، عن استحقاقات انتخابية، عن صوت منحوه، عن طوابير في برد وحر وقفوا فيها ساعات طوال، عن نجاح رئيس باعتراف الجميع، وبفارق بسيط كما في أعتى ديمقراطيات العالم، لم يخرجوا دفاعاً عن مرسي كشخص، فمن يتابع مؤيدي الشرعية بشكل جيد سيعلم أن منهم من يراه -على غير ما أرى – مقصراً وضعيفاً و"زنديقاً" لا يطبق الشريعة، وأن عودته ما هي إلا استعادة للمسار الديمقراطي، ثم يقرر الشعب بعدها عبر وسائل يتفق عليها كيف سيحدث التحول، إذاً فأمر الاصطفاف هين لمن يدعي أن لديه الرغبة، إلا أن هؤلاء العائدين لا يرجون اصطفافاً يا أبطال العالم في حمل الاصطفافات.

قالوا عنها إشارة، ويبدو أنها كانت بالفعل إشارة خطر كصوت جرس إنذار وإضاءات التحذير من قدوم قطار سيفرم بين عجلاته العقل والمنطق والإحساس والمروءة، سيفرم الأخلاق والكرامة والعزة، سيفرم مصر لتصبح جملة (أُم الدنيا) مثار سخرية لا احترام، سيفرم حصاد سنوات ثلاث كانت حلماً لنعود فنستغرق في كابوس عميق نسأل الله تعالى أن يفيقنا منه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد