واجهت رحلة الشعلة الأولمبية نصيبها من الإهانات والمعوقات هذا الصيف أثناء عبورها هذا البلد الشاسع، في طريقها إلى ريو جانيرو.
حاول بعض الموظفين الحكوميين تعطيل تقدمها احتجاجاً على عدم دفع رواتبهم. كما حاول بعض المخادعين إطفاء الشعلة عن طريق إلقاء دلاء من الماء عليها. وفي حادث محرج، قتل جندي نمراً أميركياً (من نوع اليغور) بعدما فر من مدربيه أثناء احتفال في المدينة الأمازونية مانواس، ويمثل نمر اليغور التميمة الرئيسية لأولمبياد ريو.
لكن كراهية البرازيليين للألعاب الأولمبية اختفت لوقت وجيز حين هتف المتفرجون لحنان دكّا، اللاجئة السورية التي تبلغ من العمر 12 عاماً، أثناء ركضها عبر العاصمة برازيليا وهي تحمل الشعلة الأولمبية.
لم أشعر أني لاجئة
وقالت حنان، التي أتت من أحد مخيمات اللاجئين في الأردن العام الماضي، في حديثها للصحفيين في مايو/أيار الماضي: "اليوم لا أشعر أنني لاجئة، بل مثل أي فتاة برازيلية أخرى وهي تحمل الشعلة".
في الوقت الذي اشتعل فيه الجدال الغاضب في أوروبا وأميركا بشأن استقبال المزيد من اللاجئين، سلط قرار حمل حنان للشعلة الأولمبية الضوء على دور البرازيل كملاذ لطالبي اللجوء السوريين.
وفقاً للجنة القومية لللاجئين، إحدى الوكالات الحكومية، استقبلت البرازيل 2300 لاجئ سوري، ويقول المسؤولون إنه من المتوقع أن تزيد هذه الأرقام بعد إصدار حوالي 6400 تأشيرة إنسانية للسوريين.
وعلى العكس من الولايات المتحدة، حيث أصبحت إمكانية إعادة توطين اللاجئين السوريين عرضة للاستقطاب السياسي، ترحب البرازيل، باعتبارها أمة من المهاجرين، بتدفق السوريين.
يمكن لحوالي 3 ملايين برازيلي تتبع جذور عائلاتهم للمهاجرين السوريين الذين بدأوا في التوافد في مطلع القرن العشرين، كما أن غياب العنف الإسلامي المتطرف عن البرازيل ساعد في إيجاد هذه الحالة من الترحاب، على العكس من أوروبا والولايات المتحدة اللتين شهدتا بعضاً من هذا العنف.
قصة حنان والبرازيل
أما حنان، الفتاة الواثقة بنفسها وابتسامتها الدائمة تقريباً، فتكاد أن تصبح محبوبة وسائل الإعلام البرازيلية، ونقطة مضيئة وسط الانطلاقة الوطنية المتعثرة للتجهيز لدورة الألعاب الأولمبية.
إلا أن شهورها الأولى في البرازيل لم تكن هينة. قالت حنان: "في الحقيقة لم أعلم بوجود بلد يسمى البرازيل قبل أن آتي إلى هنا"، وتابعت: "وحتى بعدما علمت بمجيئنا إلى هنا افترضت أن الناس سيتحدثون العربية".
تركت حنان المدرسة المحلية التي التحقت بها بعد شهرين، بعدما نبذها زملاؤها لأنهم لم يفهموا لم لا تتحدث البرتغالية.
لكنها عادت بعد 6 أشهر بعدما أصبحت تتحدث البرتغالية بطلاقة تقريباً. وقالت أيضاً إن التلاميذ الآخرين ذُهلوا حين أخبرتهم المعلمة بأن حنان لاجئة.
"الآن لدي العديد من الأصدقاء البرازيليين"، هكذا تمتمت بلكنة تختلط بعامية المراهقين. تغني حنان في جوقة وتحلم بأن تصبح طبيبة أو مصففة شعر، في يوم كهذا، مراسلة صحفية.
أعلن وزير العدل يوجين أراغون في يونيو/حزيران الماضي، قبل أن يترك منصبه، أن البرازيل تخطط لاستقبال حوالي 100 ألف لاجئ سوري، في مجموعات سنوية تبلغ 20 ألف لاجئ، إلا أن مستقبل هذه الخطة ليس مؤكداً.
كما ظهرت بعض المعارضة الشعبية لبرنامج المسار السريع الذي يوجه السفارات البرازيلية لإصدار تأشيرات إنسانية للسوريين، وهو ما يسمح للاجئين بالحصول على تصريح للعمل وبطاقات هوية وطنية توفر لهم استخدام القطاع الصحي البرازيلي بعد وصولهم بفترة قصيرة.
مشاكل وصعوبات
لكن في الوقت الذي تزداد فيه البطالة وعجز الميزانية، للشهامة البرازيلية حدودها؛ فيجب على الحاصلين على التأشيرات دفع ثمن رحلتهم الجوية إلى البرازيل، كما أن الحكومة لا توفر لهم إلا القليل من الدعم بمجرد وصولهم.
ورغم ترددهم في الشكوى، واجهت حنان وأسرتها العديد من الصعوبات منذ وصولهم قبل 18 شهراً، إذ يتشارك 11 فرداً من العائلة، منهم والداها وشقيقاها، شقة مكونة من غرفة نوم واحدة في حي جليسريو الموبوء بالمخدرات في وسط ساو باولو. وينام العديد من البالغين على الأرائك التي تزدحم بها غرفة المعيشة الصغيرة.
يقضي والدها، خالد دكّا (40 عاماً) الذي كان يعمل في مكتب صرافة في سوريا، يومه أمام فرن في مصنع قطع غيار السيارات.
بينما يعمل شقيقها مصطفى – البالغ من العمر 16 عاماً – في بيع ملحقات الهاتف المحمول 7 أيام في الأسبوع.
ولكن والدتها – يسرا (35 عاماً) – قالت: "لو أننا بقينا في سوريا، لكنا جميعاً موتى".
وقال القس باولو باريز – مدير دراسات الهجرة في ماساو باز، وهي منظمة توفر مساكن مؤقتة للاجئين حديثي الوصول – إن العديد من السوريين يواجهون عقبات مماثلة حين ينجحون في الوصول إلى البرازيل.
ورغم وجود المتعلمين تعليماً عالياً، فعادة ما يكافحون للعثور على فرص عمل تناسب مهاراتهم. وأضاف أنه من الصعب عليهم أيضاً العثور على الضامن المالي وإيجار 3 شهور التي يطلبها العديد من المُلاك قبل التوقيع على عقد الإيجار.
وأضاف أيضاً: "بمجرد خروجهم من المأوى، لا يُمكن للاجئين الاعتماد على أي برنامج فيدرالي لمساعدتهم في العثور على مكان للسكن".
في نهاية المطاف يتقاسم الكثير منهم شققاً ضيقة حقيرة مع لاجئين آخرين، ويعتمدون على المنظمات غير الربحية للمساعدة في توجيهم خلال العالم الجديد الذي لا يُشبه ما تركوه إلا في القليل.
وحتى مع ذلك، قال لويس فرناندو غودينهو، المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: "جميع اللاجئين الذين تحدثت معهم يشعرون بالامتنان الشديد لأنهم تركوا الوضع الكئيب الذي كانوا يعيشون فيه، واستقروا في بلد مسالم حيث التعايش بين الأديان ممكن".
عائلة دكّا
في بداية الحرب الأهلية في سوريا عاشت عائلة دكّا في إدلب، المدينة الشمالية الشرقية التي كانت مسرحاً لقتال عنيف بين الثوار والقوات الموالية للحكومة.
وساعد دكّا بعض الأصدقاء، في وقت مبكر، على الهرب من العنف المتصاعد. وفي لحظة ما، أُلقي القبض عليه وتعرض للتعذيب على يد قوات الأمن، الذين اتهموه بالاتجار بالبشر.
أفرج عنه القاضي بعد ما يقرب من عام في الحبس. وقرر مغادرة البلاد مع عائلته بعدما علم أن كلاً من السلطات والميليشيات يريدون قتله.
بعد 3 أشهر من المغادرة، وجدوا أن حملة قصف الحكومة السورية بلغت حيهم السابق، ما أسفر عن مقتل العشرات من السكان.
وأدى الصراع الممتد لما يزيد على 5 سنوات، لمقتل اثنين من أعمام حنان وجدها.
انطلقت الأسرة بالسيارة، وبعد المرور على 16 نقطة تفتيش عسكرية، عبروا الحدود إلى الأردن. كان منزلهم عبارة عن كوخ، لمدة سنتين ونصف، في الزعتري أحد مخيمات اللاجئين البائسة. لم يكن مسموحاً للكبار بالعمل، وكانت حنان تسير 40 دقيقة على قدميها لتصل إلى المدرسة التي تُقدم القليل من التعليم.
قالت حنان: "عندما لم تكن المعلمة تضربنا، كانت تجلس في مقدمة الفصل لتضع الماكياج".
في نهاية المطاف قدمت الأسرة للحصول على تأشيرات البرازيل في العاصمة الأردنية عمان لتلحق بالأخ الأصغر لدكّا الذي أتى إلى هنا في وقت سابق.
وقالت حنان: "عندما سمعت أننا سنتجه إلى البرازيل كنت متحمسة جداً، ولكن غالباً لأنها كانت المرة الأولى لي في ركوب الطائرة".
مثل حنان، أحبت والدتها البرازيل. على الرغم من عدم معرفة العديد من البرازيليين بسوريا أو بالإسلام، إلا أن المارة الفضوليين يوقفونها في الشارع أحياناً ليسألوا عن الحجاب.
قالت: "هنا يمكنك الذهاب إلى مسجد أو كنيسة، ولا يهتم أحد، أو يسخر منك أحد". وأضافت "في البرازيل، يمكنك أن تفعل أي شيء تريده".
اختيرت حنان لتكون حاملة للشعلة بعدما أحالت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة اسمها إلى اللجنة المنظمة للأولمبياد.
وأضافت: "آمل أن يتمكن العالم من معرفة أننا – اللاجئين – أناس طيبون".
ولكن مزاجها المشمس أمسى قاتماً عندما سُئلت عما تفتقده في وطنها السابق.
قالت، مُشيحة بنظرها: "لا أستطيع أن أتذكر أي شيء جيد حول سوريا".
ثم سحبت صندوقاً من وراء أريكة بالية، وأزالت تغليف الشعلة وابتسمت ابتسامة عريضة وهي تلوح بها بينما تتذكر تحولها المفاجئ للنجومية. معلنةً: "لن أعود إلى سوريا أبداً"، كما أضافت: "أستطيع أن أرى نفسي أكبر هنا وأُصبح برازيلية".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.