في مثلِ هذا اليوم، عشتُ حياةً لا كالحياةِ بعدها، كالزؤم المفرود على الوجنتينِ ترقباً لما بعدَ ذلكَ الاختفاء، وبينما خلقُ اللهِ ينتظرونَ أذانَ المغربِ، كنت أدعو الله بكل ما أملك، أن لا يجفي قدري بعدَ ما عانيتُ من رحيلِ أولهم.. وأتمنى بكل مخمصةِ القلبِ أن لا يرمى بي في غياهبِ الجب، كي لا أُفْقَدَ.. لكن قدرَ الله فوقَ كل ما نربو وما نطلب.. فانتظرتُ ذلكَ اليومَ مطولاً، حلَّ وقتُ الإفطارِ، وأنا أترقبُ مجندلاً في الصحراء..
وقبلَ وقتِ الإفطارِ رأيتُ بأم العينِ كيفَ يجري الله المقاديرِ في كونه، وكيفَ يرسلُ الرسالاتِ مع خلقه، وكيفَ يُقَدِّر على المرءِ أن يعيش، ويرحلَ ثمَ يتركُ أثراً أثيراً.. إنه العشمُ وكفى بالله بعدَ كل هذا..
لم أتمالك لحظتها نفسي، وأنا أرى بقلبي رفاقِ الدربِ يرحلونَ هكذا دونَ أن يلزمَ أحدهم نفسهُ بما لقيَ أو بما سيعطى له، لقد كان القصد الله وآخرته.. فبدأت أبحثُ لحظتها وأنا أرى تلك الصورِ المسترسلة.. وآلافُ الأحاديثِ والعباراتِ تعبرُ قلبي، بينَ رئتي هناك، ألم يشتدُ مع كل طرفة عين، ومع كل امتدادٍ في قيرورة الزمن… أمسكتُ بقلبي حتى لا يُفْقدَ بين منظورِ مفهومٍ، وبينَ ما قد لا يستوعبهُ من (أطلالِ ذاك العالم الذي أحببنا العيشَ فيه).. وأرددُ على كلتا مسامعي، بينَ قلبي وروحي، لقد سبقكَ الرجال وكفى…
لن يدركَ القومُ حقيقةَ أن تهرعَ إلى ربكَ حاصداً ما يحصدُ الرعيلُ وأهل السابقةِ في أول الطريق، إنه شيءٌ لا يدركه إلا خاصةُ الخاصةِ من أهل الله، وممن فقه، وأدرك وذاقَ وعرفَ واعترف..
ولا تنسى العينُ إطلاقاً كيفَ لهؤلاءِ أن يرعاهم الله، ويختصهم بكل ما قد يتمناه المرءُ طيلةَ الطريق، وإن شقَّ عليهِ المسير، وأظلم عليهِ الليل فلا مفر ولا مهربَ ولا مخرجَ من اللقاء، ولكن الله اختارهم في أول الطريق… فكانت هذه قريحةً اكتوى بها يعقوب، وتردد على مسمعه، أن يا الله كيفَ السبيلُ، هل ينقصنا الصدق، أم أن أثراً لم يخضر ليسرَ الناظرين؟.
قد أختزلُ كتاباً في جملة، وصديقاً في عبارة أو موقفٍ أو شعور، ولكن الأمر لا يتعلقُ بمدى استحضار الموقف، أو مدى "أثره في قلوبنا"، ولكنـها حقيقةٌ مغمضةٌ لا ترى، فكيفَ لنا أن نراها دونَ أن نملكَ الصدق مع هذا الخالق؟ وكيفَ نراها ونحنُ لم نبرحَ مكاناً لنبحثَ عنها؟؟
سنتانِ لم تمرا سريعاً، ولكن رسلَ ربكَ تعلم أين ومتى تقذفُ في قلبكَ ما يعينكَ على إكمالِ الطريق، ولكل هذا نستعينُ بالله من حرِّ الطريق، وصعوبةِ المسير، وظلمةِ الليل.. ونترقبُ بالعملِ الصالحِ والجهاد، حتى نكونَ نجمةً تضيءُ سماءَ التائهين في براحِ الله، فحتماً لذلك اليومِ نعدُّ العدة، ونتركُ الأثر عسى أن يشفع لنا عند الله…
مهما علا شأنك في الدنيا، ومهما بارحتَ من تلاميسها، ولامست زخرفها، وعشت عشمها وبهاءها، لن تصلَ إن كانَ نصفُ قلبكَ مفرغاً والنصفُ الآخر مفقوداً فيها، لا حياة تدوم، ولا مال يكفي، وعلم يكفيك، ولا صلاةَ تنجيك.. حياةُ الأثرِ متعبة، قاسية، ستكلفكَ عُمُراً بأكمله، وعلماً بكله، وأثيراً لا تدركُ حجمه، وسيبقى في قلبك شيءٌ من الفرادقِ يقول: لن يكفي هذا..
هؤلاءِ ممن رحلوا، كانَ لهم حظ من الشوقِ، وحظ من اليقين، والكثيرُ من الصدق، زهدوا في الدنيا، وارتكنوا أمامَ بابِ الآخرة يطرقونه كل مرةٍ، لعلَ الله يفتح عليهمِ في بداية الطريق..
وهذه رسالتي إلى كل من لا زالَ مفقوداً في أرضِ الله، لا يعلمُ أولهُ من آخره، واقفاً أمام مفترقٍ من الطرقِ لا يعلمُ أي طريقٍ يتخذه لنفسه، اعلم صديقي، أن للتاريخِ محلاً منا، وأن للمجدِ نصيباً من أثرنا، كل ما في الدنيا يرحلُ ورحيلك، وكل جاهٍ يسقطُ لحظة خروجكَ منها، وكل ما بني هنا، يظلُ هنا.. إن كنتَ تؤمنُ بالصراطِ المستقيم، وتعي جيداً، بل تدرك يقيناً صدقاً بأن العالم عالمان، عالمٌ نعيشهُ، وعالمٌ يعيشُ فينا.. فأيهما تختار؟ دنيا تصيبها؟ جاه وحياة رغيدة؟ أم تختار عشمَ الآخرة ومَجد الآخرة ونصيبها؟
سينتهي كل شيءٍ يوماً ما دونَ أن تدركَ ذلك، ستحدثكَ نفسكَ بأن الموت بعيدٌ كل البعدِ عنك، ولكنكَ ملاقيهِ يوماً ما، وملاقٍ ربك، فهل أحسنت المسير على الطريقِ؟ هل جاهدتَ وتعلمت، وزرعتَ في قلوبِ الناسِ شيئاً تلقى اللهَ به؟ ما حظكَ من مراتبِ الآخرة؟ أم أنك أخذتَ الدنيا جزافاً..
لك أن تختار قبلَ أن يحين اللقاء، لك أن تختار صديقي، فكل الطرقِ تؤدي إلى اللامكان.. إلا طريقُ الآخرة حيث الله.
سبقَ الرجالُ ورُفِّعَتْ أقدارُهم ** وبقيتَ في قاع الحضيضِ ولا تَعي
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.