جاءت عملية التحول الجوهري التي أعلنتها حركة النهضة التونسية خلال مؤتمرها العاشر بحضور "قائد باجي السبسي" رئيس الجمهورية -المحسوب بشكل ما على نظام ما قبل ثورة الياسمين- من حركة شمولية تتمثل شمولية الإسلام في تنظيم شمولي واحد، إلى حزب سياسي متخصص، تاركة فضاء الدعوة والتربية والعمل الخيري إلى مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة المعنية بهذه الشؤون كل في مجال تخصصه، بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة للتنظيمات الإسلامية، خاصة في العالم العربي.
فبمجرد تدشين هذا التحول انبرت أقلام العديد من الكُتّاب، ما بين مؤيد للتيار الإسلامي، أو معارض له، بتحليل الخطوة، وانقسم كلا المعسكرين انقسامات بينية بين مرحب بهذا التحول التخصصي الذي سيعمل على فك الالتباس بين الدعوي والسياسي، أو متحفظ على الخطوة لا يرى فيها غير مناورة سياسية، أو تجزئة لشمولية الإسلام، أو متشكك في جدواها لاعتبارات كثيرة متعلقة بالبيئة ذاتها التي نشأت حركة النهضة التونسية في رحابها، وأمزجة قواعدها وخصائصهم النفسية والثقافية!!
ثمة دوائر حقيقية رسمها إلقاء حجر النهضة في مياهنا الراكدة منذ عقود، تتجاوز مجرد الفقاعات الهوائية..
الدائرة الأولى: الإعلان الواضح عن موت فكرة التنظيم الشمولي الذي يمثل دولة داخل الدولة، ويعمل على إنشاء المجتمع الإسلامي البديل عن طريق تمدد التنظيم!، وهو في ذات الوقت إعلان عن ولادة حركية لحكمة طالما رددها الفقهاء المعاصرون: "شمولية الإسلام لا تفرض بالضرورة شمولية التنظيم العامل له".
الدائرة الثانية: الإعلان عن وفاة فكرة التنظيم الدولي العابر للحدود والقارات، والاعتراف الأكيد بحدود وخصوصية الدولة القُطرية الحديثة.
الدائرة الثالثة: مبادئية هذا التحول وذلك من خلال الحيثيات التي أعلن عنها الشيخ "راشد الغنوشي" من أن النهضة تريد أن يظل المسجد بعيداً عن بؤرة الصراع السياسي الحزبي، وملجأ للجميع في ذات الوقت.. وأن يصبح الداعية والمُربي أباً وأخاً لجميع الفرقاء والمتنافسين السياسيين في الوطن، وإعلاء مصلحة الوطن على كافة المصالح التنظيمية المختلفة..
هذه مبررات وحيثيات مبدئية لا يمكن النكوص عنها ولا تدخل في باب المناورات الحزبية، والمواءمات السياسية بحال.. وبعض هذه الحيثيات قدمتُها في ورقة بحثية عن وجوب فصل السياسي عن الدعوي، نُشرت في عام 2005م بموقع إسلام أون لاين، وقوبلت وقتها بحالة من الهجوم والهياج العام من جماهير القراء المنتمين للتيار الإسلامي، معتبرين إياها دعوة علمانية في ثياب إسلامية!.. ولا يغيب عن ذهن القارئ أن تلك الورقة البحثية قدّمت مبادئ إسلامية خالصة لا مجال فيها للبرغماتية السياسية، كون كاتبها غير معني بالعمل السياسي التنافسي، ولا هو محسوب على العمل التنظيمي بوجه من الوجوه..
إن تعديد بعض تلك الحيثيات المبدئية الواردة قبل أكثر من عِقد من الزمان في سياق مبررات "الغنوشي"، يجعل منها -أي الحيثيات- لا تشكل فقط ضمانات عدم الحيْدة عن هذا التحول الكبير، وإنما تشكل أيضاً حجة دامغة تدحض كثيراً من ذرائع الرافضين لتكرار تجربة التحول في تنظيماتهم في بقية دول العالم العربي.
الدائرة الرابعة: هذا التحول لم يكن وليد صدفة ولا بحث متعجل، ولا خطوة من أجل تحقيق ربح سياسي واجتماعي عاجل، بقدر ما اعتمد على تجربة وخبرة طويلة في المجال الفكري والتنظيمي على السواء، مما جعل فكرة التحول تنضج على مهل، مما يتيح لها الاستقرار والاستمرار أولاً، ومن ثم الانتقال إلى تحولات أخرى أكثر جذرية في العمل الإصلاحي الحركي.
الدائرة الخامسة: جاء هذا التحول بعد اكتمال التجربة ووصول الشوط إلى نهايته، وبعد وصول التنظيمات الحركية الشمولية إلى سُدة الحكم والقيادة، إما مشاركة أو شبه منفردة في تونس ومصر على التوالي، ومعاينة فشل الاستمرار في النسق القديم القائم -بغض النظر عن الاختلاف الكبير واللغط الدائر حول أسباب هذا الفشل، وإصرار البعض على رؤيته إفشال ممنهج ومخطط له، والمقال ليس محلاً لمناقشة هذا اللغط- فكان لا بد من المراجعة والتغيير والاتجاه الطبيعي لإجراء التحولات الجذرية الكبرى.. ففكرة التحول جاءت بعد انكسارات في طرح المشروع وتطبيقه على أرض الواقع، وهو أفضل وأعمق كثيراً من أن يأتي داخل أقبية السجون، وفي المنافي الإجبارية، وكأنه نوع من التسليم للأقوى، وانكسار للثبات والصمود!
الدائرة السادسة: الجذور التاريخية لهذا التحول عميقة، فهو لم يحدث بين يوم وليلة ولا خبط عشواء، كما يتوهم البعض.. ولكنه تحول له جذور، بات يجهر ثلة من كتاب الإخوان ومفكريهم أن الشيخ "حسن البنا" -رحمه الله- هو أول من سعى إلى هذا التحول قبل اغتياله في نهاية الأربعينات من القرن الماضي.. وأنه صارح بذلك السياسي البارز "فتحي رضوان" -رحمه الله- وطلب منه أن ينهض الحزب الوطني امتداد المناضل "مصطفى كامل" بالشق السياسي، وتتفرغ الجماعة للدعوة والتربية، وعلى العموم تلك شهادة شهد بها الأستاذ فريد عبدالخالق أمام الجميع عبر الفضائيات، أن "حسن البنا" قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالدعوة إلى سيرتها الأولى ولوقفتها على التربية)، وكلا الرجلين في دار الحق..
وجاء في مذكرات "عبدالمنعم أبو الفتوح" أن نقاشاً دار في منتصف التسعينات من ذاك القرن، حول تحول الجماعة بالكامل إلى حزب سياسي، أو تشكيل حزب يكون بمثابة الذراع السياسية للجماعة، واستقر الاختيار على الأمر الثاني.. ولكن بقي التحول الأول مطروحاً، ولو لم يحظَ بالموافقة.. كما سبقت الحركة الإسلامية في المغرب تطبيق الفصل بين الدعوي والسياسي، وفك الاشتباك التنظيمي بين الحزب والجماعة منذ سنوات.. كما أن التجربة العكسية معمول بها في بعض دول الخليج العربي؛ حيث يوجد للإخوان تنظيم لا يهتم إلا بالعمل الدعوي والإصلاح الاجتماعي بعيداً عن دائرة السياسة، في دول غير متاح فيها مبدأ تداول السلطة من الأساس.. إذن فمبدأ الفصل والتجزئة والتخصص له جذور حتى في التنظيم الأعرق والأكبر، والذي يُبدي مواقف أكثر راديكالية تجاه هذا التحول.
الدائرة السابعة: لابد أن التجربة التونسية قد تأثرت بالتجربة التركية في فصل المؤسسة الدعوية عن الحزب السياسي، وشبه القطيعة مع الأفكار الأكثر راديكالية وتشدداً أو جموداً، التي مثلها في وقت من الأوقات "نجم الدين أربكان".. ومن ثم المواجهة الحالية بين "العدالة والتنمية" وبين جماعة "عبدالله غولن" الفصيل المنوط بالدعوة والتربية والتوعية الدينية والشرعية، في إشارة واضحة من حزب "أردوغان" -صاحب الشعبية الجارفة في عالم الإسلام الحركي العربي- إلى أن خلط العملية الدعوية بممارسة السياسة خط أحمر محظور على "غولن" حليف الأمس، فهو بالأحرى محظور على غيره من التيارات.. من أجل هذه الإشارة الواضحة لقبوا جماعة "غولن" بـ(الكيان الموازي).. وهو لقب ربما ينسجم مع لقب "الجماعات المحظورة" في عالمنا العربي.
في تقديري أن هذه الدوائر السبع رسمت مشهد التحول النهضوي التونسي بصورة أكثر عمقاً من مجرد القراءة العابرة للمشهد.. وبقي المطلوب تحولات أكثر جذرية في تعريف الحالة الإسلامية ككل، والانتقال من خانة العمل الإسلامي إلى خانة العمل الإصلاحي!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.