دولة الشبه وشبه الدولة

بمرور العصور تحولنا من عصر "الشبه" إلى عصر "اللاشبه"، فنحن الآن لا نشبه أي أحد، لا شرقاً ولا غرباً، نعيش حالة من الاهتراء الأخلاقي والفكري والقيمي غير مسبوقة. فبعد مرحلة التحول من الخلافة الإسلامية إلى القوميات، صرنا ننادي بالعودة للفرعنة؛ وعليه فنحن لا ننتمي لا للمسلمين ولا للعرب وأصبحنا "رؤساء جمهورية أنفسنا".

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/06 الساعة 08:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/06 الساعة 08:15 بتوقيت غرينتش

قال رئيس دولة كانت الأهم في المنطقة قبل أن تصبح أضحوكة العالم في خطبته، إنها ليست دولة حقيقية ولكنها "شبه دولة". ثارت شبكات التواصل الاجتماعي ساخرة تارة وغاضبة تارة، فتلك هي بلادهم التي وقف الخلق جميعاً ينظرون كيف تبني قواعد المجد وحدها، وهي التي حين كانت دولة نشرت الدين والعلم والثقافة، وهي التي كانت تعطي بسخاء دون مَنٍّ ولا انتظار مقابل، وهي التي كان يطلق على الزائرين منها لأي بلد وصف "فاكهة العرب".

أول صيحات تحرر من الاستعمار خرجت من حناجر أبنائها، أول طائرة أقلعت كانت لسمائها، وأول قطار انطلق كان على أرضها، أفخر أنواع السيارات كانت تسير في دروبها. كانت عاصمتها في يوم هي أفضل عواصم العالم، كان كل جديد ومتحضر ينزل بساحتها أولاً. حين الشدة كنت تجد رجالها ونساءها وحتى أطفالها ذوي بأس شديد؛ وحين الأمن تجدهم رمزاً للطيبة والمروءة وحسن العشرة. هؤلاء كانوا هم المصريين.

تحولت هذه الدولة بالفعل إلى "شبه" منذ بداية تسرب العلمانية من شقوق تفسخ الخلافة العثمانية في عهد محمد علي الذي كان حلمه أن ينفصل بمصر ويحولها إلى النمط الأوروبي؛ فدفع بالبعثات إلى أوروبا وشجع ترجمة الكتب الأجنبية ونقل ثقافتها وغير نظام الجيش وهيكل التعليم في المدارس؛ فسرى التغريب شيئاً فشيئاً في عروق الأجيال دونما تغيير حقيقي واضح في بناء المجتمع.

انكسر باب دحر التغريب أو لنقل تحطم تماماً مع بداية ثورة يوليو، فكانت بداية محو لهوية المجتمع المصري الإسلامية وحصرها في هويتها العربية؛ ومن هنا انطلق فكر القوميات الذي استشرى بالطبع في كل دول المنطقة، فانحلت آخر العقد التي كانت تربط المسلمين ببعضهم بعضاً. وبدأ عهد جديد من النقل عن الغرب ولكن هذه المرة كان النشر على مستوى أوسع؛ فأجهزة الإعلام كانت قد انتشرت نوعاً ما بين طبقات المجتمع المختلفة وصار تأثيرها أعمق. صار التغريب يتم عن طريق فيلم أو مسلسل أو برنامج بعد أن كان في السابق يتم عن طريق كتاب أو ندوة بين دائرة المثقفين المغلقة. في هذه الفترة كان هناك بقية من ثقافة إسلامية تقف بصلابة في وجه موجة التغريب العاتية التي ضربت مصر، ولذلك ربما لم يجاوز التغريب بعض المظاهر السطحية من ملابس وأفكار، وهذا هو تفسير جملة عادة ما أسمعها ممن عاشوا ذاك الجيل وهي "كنا بنلبس قصير ونعمل شعرنا ومكانش فيه حد بيفكر غلط" فأجيب "أن ذلك لأنه كانت هناك بقية من دين لا لأن ما كنتن تفعلن لا غبار عليه".

كانت هذه هي مرحلة الشبه، فقد حاول النظام أن ننقل من الغرب فتنازلنا عن أصولنا وأصبحنا "شبه" في كل شيء؛ فلدينا نظام تعليم "شبه"، ونظام قضائي "شبه"، ونظام إعلامي "شبه"، ونظام حكم "شبه"، ونظام أمني "شبه"، ونظام رياضي "شبه"، وحتى نظام ديني "شبه". نختار الممثلين كـ"شبه" لممثلين بالغرب، نعد البرامج لتكون "شبه" برامج الغرب، نشتري الكاميرات ليكون التصوير "شبه" ما ينتجه الغرب؛ حتى أننا عندما قمنا بثورة كانت محاولة لتكون "شبه" ثورات الغرب.
الأزمة في "الشبه" أنه لا يشبهنا، فنحن شعوب ذوو حياة مختلفة، هوية مختلفة، طريقة فكر مختلفة؛ فيأتي الشبه ليغيرنا فلا نحن "نحن" ولا نحن "هم"؛ تحولنا لكائن "مسخ" مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهكذا تفشل فكرة "الشبه" في كل مرة ليخرج الأداء مضحكاً إلى درجة البكاء، يسخر منه من كان هو الأصل فيه؛ والكارثة أننا صدرنا "كوميديا الشبه السوداء" لكل من حولنا، فصرنا جميعاً مسوخاً تدار بجهاز تحكم من بعيد.

وبمرور العصور تحولنا من عصر "الشبه" إلى عصر "اللاشبه"، فنحن الآن لا نشبه أي أحد، لا شرقاً ولا غرباً، نعيش حالة من الاهتراء الأخلاقي والفكري والقيمي غير مسبوقة. فبعد مرحلة التحول من الخلافة الإسلامية إلى القوميات، صرنا ننادي بالعودة للفرعنة؛ وعليه فنحن لا ننتمي لا للمسلمين ولا للعرب وأصبحنا "رؤساء جمهورية أنفسنا". وجاء منا رئيس يؤكد لنا الخبر ويقول لنا إننا "شبه دولة ولسنا دولة حقيقية"، وحقيقة أعتذر منه.. فأنا لا أريد أن أشوه بلاغة منطقه، ولكن بعد ما شهدناه من تفريط في أرض ونهر ومياه إقليمية وبشر وكرامة وعقل وخلق وقيم؛ فإننا حقيقة نعيش الآن على "مصطبطة الدولة".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد