كما سبق أن أكدنا في كثير من مقالاتنا السابقة أن الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، يتميز بذكاء حاد، ويتحلى بدهاء سياسي قد لا يوجد له عديل يكافئه في المشهد السياسي التونسي، وربما العربي والإقليمي، كما أن له حنكة ودراية عالية في خلط وفرز وتوزيع أوراقه في تناسق مدروس وفي توقيت صحيح ومزامن لمسار الأحداث والمستجدات.
أيضاً فإن استقراء المنهجية العامة لمسار الحركة قديماً وحديثاً يبرهن على قولنا بأن الشيخ راشد الغنوشي رأس قاطرة النهضة، تقريبا ً قسم ويقسم -حقل- أنشطته السياسية إلى دوائر تكبر وتصغر حسب ظروف المعركة السياسية؛ دوائر تبدأ أولاها من شخصه ورمزيته، ثم حاشيته وبطانته، ثم مكونات هيكلية الحركة، وأخيراً دائرة الأنصار والمريدين وعامة الشعب (مولدات الشعبية ودعائم نتائج الانتخابات).. وعلى أساس هذه الخارطة نرى تقلبات مؤشرات حراك السياسة العامة للحركة ككل، تتمدد وتتقلص بحسب ما يمليه الواقع المادي والوضع الذي يخلقه جديد المسار السياسي وتحتمه ضرورات المرحلة، أيضاً على نفس هذا الأساس كان ويكون -محرار- تفاعلات المواقف والقرارات سلباً أو إيجاباً.
يحسب أيضاً للشيخ راشد الغنوشي أنه يتمكن دوماً من إخضاع الظروف والمستجدات وحتى الملابسات والمطبات إلى ما يرغب فيه، كما يعول على عامل الوقت وأخطاء خصومه وبلادة التفكير السياسي لديهم؛ ليحولها إلى (محروقات) تدفع في الأخير في اتجاه أفكاره ومشاريعه، ثم يوظفها ببراعة وإحكام نادرين، هذا ثابت ومكرر وهو كذلك يكون دوماً وكل مرة رصيداً جديداً وإضافياً للحركة والقائمين عليها.
هذه الأيام الأخيرة تداولت مؤسسات الحركة وسيطرح رسمياً على مؤتمرها العاشر، موضوع حارق ومفصلي، موضوع فصل الدعوي عن السياسي في نقلة نوعية لنشاط الحركة مستقبلاً في عالم السياسة، نقلة تقابلها كثير من الأصوات المعارضة سراً وعلناً، سواء في المستوى المركزي أم في المستويات الدنيا.. نقلة ينظر إليها على أنها تحمل وزر الانفصال والتنكر لأدبيات التأسيس وشهداء ومعذبي الحركة.
كما أن هذه النقلة تحمل اعترافاً ضمنياً بفصل الدين عن السياسة وإقراراً واضحاً بالتفصي من الالتزام الديني الذي كانت تحتمه أدبيات ومرجعيات الحركة على مكوناتها وقياداتها ومركزيتها إزاء كل حادث وطارئ، فضلاً عن تكييف المواقف والقرارات والبيانات.
بقطع النظر عن أسباب ومسببات هذا القرار، وبعيداً عن الخوض في خفايا وملابسات (الالتجاء) إلى مثل موقف كهذا، سواء الداخلية أو الإقليمية والعالمية، فإن كثيراً من الأسئلة باتت تطرح تزامناً مع التحضير للمؤتمر العاشر لعل أهمها:
ماذا عن قواعد هذه الحركة؟ وماذا عن المنخرطين البعيدين عن مركزية مونبليزير؟ وماذا أيضاً عن الأنصار الذين ارتموا في أحضان حزب النهضة وتوسموا فيه الخلاص من سنوات الجمر فوطدوا أواصر هذا الحزب وانتموا له على أساس أنه الحزب الذي سيعزز راية الإسلام ويثبت عنوان الهوية ليرفع عنهم تجهيل وتغريب عقود الزمن الماضي وإخلالات سنين الديكتاتورية؟!
ماذا عن هذه الكتلة (الشعبية) الكبيرة التي تمثل حجر الزاوية لهيكلية الحزب، تؤثث اجتماعاته وتتغنى بشعاراته وتبايعه سراً وجهراً؟
هل فكر فيها الشيخ؟ وهل وضع في حسبانه خيباتها التي تجنيها كل يوم ثمناً لمتطلبات تكتيكه وتوخي مصالحه الحزبية؟
خطط الشيخ مع (صطاف) ومخبر الحركة -المركزي- لهذا الفصل، وخططوا لما أرادوه أن يمر عبر الهياكل الرسمية للنهضة حتى يكتسب صفة الديمقراطية (المطلوبة منه والمفروضة)، لكن هل فكروا فعلاً في ما أوصلت الحركة إليه البلاد والعباد مجاراة لتكتيك المرحلة وتثبيتاً لمكانة الحزب محلياً ودولياً؟ وكذلك ثمناً لوجود سياسي فرضه ذكاء ودهاء الشيخ (فرضاً)؟ هل فكر الشيخ وصحبه في ما آل إليه دين الله في هذه الأرض أثناء وبعد حكم النهضة وحلفائها واحترافها "لفن التنازلات" بغاية كسب ود الدول الراعية واتقاء غضب الدول الضاغطة وتصدياً لأحزاب القطع والاستئصال؟ وبعد أن خرجت من الحكم وتركت -أيقونات- الفساد والإفساد ترتع وتعبث في مصالح الرعية وتدنس هويته وتتطاول على مقدساته؟
كل هذه الأسئلة مجتمعة قد يجيب عنها سؤال أكبر وأخطر وهو: هل فصل الحركة للدعوي عن السياسي جاء تكتيكاً حراً واختياراً استراتيجياً طبيعياً أم كان قسراً مدفوعاً بأسباب قاهرة مثله مثل طلاق الإكراه؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.