على أرصفة الأوجاع، أجُر الخطى مبلل البال، تحت مطر الذكرى بلا مطرية..
إلى تلك التي تعرفني ولا تعرفني، تعرفني معرفة افتراضية، ولا تعرفني واقعياً.. وتعدني بلقاء على حافة المجون الأحمر كليالي العشاق.. في مساء شتوي يتغزل فيه الرذاذ بمحيا الأديم الأسمر كسحنتي.. أو في ليلة يعانق فيها الضوء الأحمر عري الجسد لتضفي إليه نكهة الخلود والسرمدية، في معبد إلهة الحب "أفروديت"؛ حيث يمارس المجون كطقوس عبادة.. لحظتئذ ترسم فيها على شفتي قُبلاً بلون الوهم والإغراء، نستحيل عندها إلى تجسيد لتمثال "القبلة" البرونزي، أشهر منحوتة للفرنسي "رودن"، الذي يعتبر رمزاً خالداً للذة الإنسان الغريزية والسعادة اللامحدودة.. تريد أن نصبح تمثالاً من عظم ولحم يشاكس الروح بالروح وبضحكات ممشوقة بتغنجها الأنثوي اللامتناهي، الذي تجتاح سويداء القلب كما وصفت.. لتظلل المكان برائحة عطرها الباريسي الناعم والشبق الذي عطر أردانها.. يقودني في لحظة وسن إلى سرير الغواية والمجون.. تقول إن ريح خصرها العاري والملتهب ستعصف بي إن هبت وهو يتمايل وينثني على أنغام الموسيقى باتجاهي، ثم يلتف ويبتعد ليوقظني أكثر؛ في عوالم الشهوة المتألقة.. متجاوزاً كل ممنوعات الحياة الدنيا.. منفتح على فضاء الجنة المفتوح على النعيم الخالي من القيود؛ حيث تفرغ المحرمات من محرماتها.. وتكف لاء النهي عن النواهي.. مطلقين العنان لبهيمية الإنسان داخلنا.. تلك البهيمية التي تعد جزءاً من كينونته من ناحية.. ومن ناحية أقرب تعد الجزء الشفاف في تكوينه، وأصدق نزعاته وأفرغها من المقاصد.. لا تترنحي حبوراً يا من أنت أنت.. كمخمور عب عدداً لا يتذكره من كاسات رشيقة ترقص فيها قطع الثلج في موج سلاف العنب.. فأنا لست أنا.. ولا أصلح لأي شيء.. لست سوى جذع مقطوع من شجر اللامبالاة.. وخطى على خرائط التيه، تمشي بغير هدى.
تريدين التجول في تضاريس خارطتي، تفضلي سيدتي، وليكن جواز سفرك للمرور إليها أذنك وطابع الجمارك الإصغاء.. ما الحرف إذا لم يكن بوحاً؟، والشعر إن لم يكن مطارحة؟، كلهم كالكأس لولا المشروب، مجرد زجاجة خالية من أي معنى.. سأحكي لك قصتي مع الحياة بكل اختصار سيدتي، قبل أن يرفع الليل نقابه الغربيب عن وجه الصباح، ويتكلس في حنجرتي الكلام الماجن والمباح..
وكان ياما كان!!!.
أنا يا سيدتي ابن أحجية الزواج بلا حب، بين رجل وسيم أبصر امرأة جميلة، فتاه في تضاريس جسدها المصممة خصيصاً لها، كتيهي أنا على خرائط التيه، بعد أن أنجباني ذات مساء قائظ من تموز.. في السنة التي ولد فيها وقف إطلاق النار، بين المغرب والبوليساريو.. ولدت قبله بأشهر، أي أني أكبر منه بالعمر، ولكنه أكبر مني ومن من وقعوه.. ورثت عن أمي عينيها وحاجبيها، ومن أبي ابتسامته ونحافته، كما ورثني أيضاً عنوة طباعه العصبية.. سميت باسمي هذا نكاية في بسمة مغتالة، والذي لا يمثلني في شيء، سوى أن والدي اقتبسه من أحد المعاجم أو الدواوين، التي كان متيماً بها حد الهيام.. فخان الاسم المسمى، وبلغة اللغة خان الدال المدلول والنعت المنعوت.. وبعد سنتين من العيش في حضن أبوي، كان لا بد للأحجية من حل، وكان الطلاق هو المآل لسيارة العائلة الصغيرة، التي لم يتعلم سائقاها قانون السير في مدرسة الحب، لم يتغزل بجمالها تحت ضوء عمود إنارة على أحد الأرصفة، ولا تبادلا قبل العشاق في إحدى الساحات خلسة وفي توارٍ تام عن عيون جدي لأمي، الذي كان -رحمه الله- متشدداً في الدين حد الظلامية.. إذ كانت للمرأة في معجمه خرجتان، واحدة من بيته إلى بيت بعلها، وأخرى من بيت البعل إلى شبر القبر.. فعادت بي أمي إلى بيت أهلها تحملني كما تحمل في حقائبها ذكريات الزواج البدوي التقليدي، ذكريات وجع نوستالجي بامتياز.. وتحملني بتشديد الميم بشدة ألم العيش في فضاء مفرغ من دفء الأب والأم معاً.. وبعد أربع سنوات من العيش في بيت الأخوال، كما هو حال أبناء المطلقات الأثير، في مجتمعي هذا.. قرر الوالد أن يأخذني لبيت أهلي، كي أتربى على يده بين أعمامي؛ لأن تربية المرأة لا تنجح كما هو الحكم المسبق عليها، أيضاً في مجتمعي هذا.. لا أخفيك سيدتي الحلوة، أن هذه النقلة قلبت كياني رأساً على عقب.. وحولتني من صبي عابث إلى ناضج شديد الذكاء.. وجعلتني أمعن النظر في كل جوانب حياتي.. ولأن السواد شقيق البياض، خرج الأخير من صلب الأول، فكان حظي أني وجدت عائلة أدبية بامتياز.. فنهلت منها ما جعلني متفوقاً على أقراني في الدراسة، وكان جدي -أطال الله عمره- هو معلمي وصديقي..
لا أنكر أيضاً أن والدي حببني في لغة الضاد، التي يتقنها ويحبها، ربما أكثر من حبه لأمي.. لكن غصة كانت دائماً تستوطن الحلق، وما ينكأ جرح الفقد والبعد عن حضن الأم، هو مشهد الأمهات وهن يوصلن أبناءهن إلى باب المدرسة عند الدخول، وانتظارهن لهم عند الخروج.. وأنا كنت أدخل إلى المدرسة وأخرج منها أحمل أمي معي، في تجاويف القلب وثنايا المشاعر.. وجع هذا الإحساس جعل مني تلميذاً متنمراً، فصرت أكره أولئك الذين ينعمون بخدمة توصيل من الأمهات، وكثيراً ما افتعل معهم شجاراً يمكن أن أسميه "حقداً طبقياً"، وحين تخونني موازين القوة وآكل من طبق الهزيمة، عندئذ كنت أستعين بمدد قوات الاحتياط من أبناء الحي.. من هذا وذلك تكون عندي فكرة سوداء، أن الزواج جريمة لا بد لها من عقاب، وأن إنجاب الأبناء أشد مضاضة من إزهاق روحهم ووأدهم في المهد.. لا أنسى كيف سخر مني التلاميذ في الفصل ذلك المساء، حين كان يسأل المعلم كل واحد منا، عن أمنيته وحلمه.. وكيف انفجر القسم ضاحكاً حين قلت إن أمنيتي هي أن آكل لقمة واحدة بين أبوي.. فعلاً، مثيرة للسخرية هذه الأمنية، لمن ينعمون بطعم العيش بين ظهراني آبائهم وأمهاتهم، ولهم أمنيات في أن يصبحوا أساتذة ومهندسين وطيارين وأطباء وما إلى ذلك من أرقى الوظائف، أليس كذلك سيدتي؟!!.. لكنها كانت بمثابة الجنة وكنت على استعداد تام أن أقاتل وأقتل في سبيلها، وألج فردوسها بغير حساب.. لكن القدر قطع بسيفه الشاطر شعرة الصراط من تحتي، وسقطت في غياهب الفقد السحيق، كما سقطت في وحل السخرية اللزج.. لكن رغم كل شيء هناك أمر به شيء من السلوى بالحكاية، أني لم أرَهما يتشاجران، ولم يعكرا صفوي بمشاداتها، ولا أعرف السبب وراء انفصالهما، الذي ظل سراً، كالأمر الذي دغدغ وجدانه وعلقه بتلابيبها من أول نظرة من سطح بيت صديقه.. هذا أهم جزء في الحكاية الملغومة والمعبأة بالفقد والوجع.. لكنها شذبتني وهذبتني وأعطتني نفسي.. والباقي سيدتي لا شيء فيه يستحق الذكر.. أيام مراهقة كأي من بني جيلي، إذ كنا نعيش مراهقتنا ولكن كنا نصنع للوطن نضوجه، حيث كنا وقود الانتفاضة وبراعمها، والباقي حياة بائسة ويائسة لا تشبه الحياة، تتخللها لحظات سعادة مسروقة في غفلة من حراس العذاب..
خلاصة الحكاية، أن الذي تراودين عن نفسه، إنسان فقد القدرة على عقله، وعقله فقد الثقة في حواسه التي لا يرى بها إلا ما لا يريد أن يرى، أما ما يريد فدونه أسوار وقلاع وبحار ووديان.. إني في هول اللحظة؛ أتعجب من هذا الذي استطاع تحملي طوال مسير أربع وعشرين سنة، معي يسير بحذائي صنوان لا يفترقان، وتجلد على أن يكون أنا.. فلا تحاولي إخراجي من نفسي، أو الوقوف على مقربة مني.. لا تتقدمي ابقي هناك في مكانك.. رجاء اتركي لهذه المسافة قدسيتها، لست سوى كرة من نار ولا تحترقي في لهيبها كفراشة بريئة.. ابقي هناك حيث تجدين نفسك، فهنا أنا لا أجدني.. لا تبيعي الوهم لنفسك، إني زبون مفلس لا يشتري، ولا أملك ثمن تذكرة السفر في قطار أحلامك الوردية.. لا تقتلي هذه الأنفاس المتطايرة في أعماقي وتشاكسي غبش سكوني.. لا تزعجي صخب السكون هناك بتراتيل مفرغة من صدق.. أعرف هذه الكلمات جيداً، والمقطوعة من أسطوانة مشروخة.. فأنا متوحش ومتغرب حتى صرت المنفى الذي نفيت فيه.. لملمي أشياءك وانصرفي عن غيمتي البنفسجية والشفافة مثلي.. عن الكمد القاطن في نظرات عيني.. عن بحتي التي تطوق أحبالي الصوتية، وشهقة الفقد في صدري، باختصار شديد؛ لم تعد الحياة تملك ما تغريني به، أو تغويني لأجاملها به باستمرار وأخطب ودها لأجله، فما بالك أنت!.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.