"التأخر في الوصول خير من عدم الوصول"، ربما هذا هو العنوان الأنسب لزيارة العاهل المغربي إلى الصين، وذلك بالنظر لاعتبارات كثيرة ونواحٍ متعددة ومتنوعة، لعل أبرزها التأخر الكبير في التوجه الجديد للرباط، والسعي لنيل ود حليف مؤثر جديد بعد أن خاب ظنها فيمن كانت تعتقد سهواً أنهم "حلفاء أبديون".
زيارة الملك تأتي في ظروف قد تكون عادية في شكلها، لكن في المضمون هي استثنائية بكل المقاييس، وما يجعلها كذلك هو التيهان الذي تعيشه الدبلوماسية المغربية بعد الانقلاب من "الحليف" الأميركي والخذلان من "الصديق" الروسي في أهم وأكثر الملفات أهمية وذات الحساسية البالغة للرباط وهو ملف الصحراء، وهو ما يجعل من الصين الرهان الأخير لاستعادة نوع من التوازن وضبط الأمور من جديد في انتظار القرار الأخير للبث في شكل العلاقات المستقبلية مع القوتين السابقتين.
إذ كان أحد أكبر أخطاء الدبلوماسية المغربية التي يجب تداركها في أسرع وقت، هي المراهنة على حليف وحيد أوحد وجعل القوى الأخرى بمثابة "عجلات احتياط" فقط؛ إذ كان للتعويل والمراهنة المغربية بوضع كل بيض المصالح الخارجية في سلة "الحليف الأميركي" أثر بالغ ومكلف في ميزان العلاقات المغربية – الصينية، وحتى مع باقي القوى الكبرى الأخرى في العالم، خاصة روسيا، وذلك لسبب بسيط أن أي تقارب مع إحدى هذه القوى هو بشكل ضمني تباعد عن الأخرى، حسب المنطق الذي يحكم العلاقات الدولية في عالم اليوم.
لكن بغض النظر عما كان، وما يجب أن يكون، فالزيارة الملكية كتب لها أخيراً أن تكون؛ لذلك على الرباط أن تستغل هذه -الفرصة الأخيرة- لتصحح الأخطاء الساذجة التي سقطت فيها في الماضي، والأهم من ذلك الاستفادة من -الدرس الأميركي القاسي- بأن لا صديق ولا حليف في قاموس العلاقات الدولية، وأن المصالح فقط هي المعيار الوحيد والأوحد لأي علاقة بين دولتين، وبالتالي الرباط مطالبة بالتعامل بواقعية وبشكل براغماتي محض مع أي من القوى العالمية الأخرى كيفما كانت.
في هذا الصدد فالرباط مطالبة بتغيير استراتيجية اللعب، بل إنها لو أحسنت استغلال الورقة الصينية على أحسن وجه فبإمكانها فعلاً قلب كل المعطيات والإمساك بزمام الأمور مرة ثانية وربما أكثر من السابق، لكن كل هذا يعتمد على أسلوب وطريقة اللعب التي يجب اتباعها مستقبلاً، وخاصة الأوراق التي يجب على الرباط التركيز والمراهنة عليها جيداً.
فما هو المطلوب إذن بالتحديد ليتحقق ذلك على أرض الواقع؟
بكين والرباط كلتاهما تحتاج إلى الأخرى وبنفس درجة الأهمية رغم الفارق الذي قد يبدو هائلاً بين البلدين على كافة النواحي:
أولاً: على المستوى الاقتصادي وهو الأهم لبكين، فموقع الرباط الاستراتيجي الإقليمي والقاري سياسياً وجغرافياً يمكنها من لعب أكثر من دور، وعلى أكثر من قطاع ومستوى للصين.
فالمغرب رابط جغرافي بين قارتين كبيرتين، ما يعني بلغة الاقتصاد رابطاً بين سوقين استهلاكيتين ضخمتين (أزيد من ملياري نسمة) أكثر من ثلثيها لم يصل بعد إلى مستوى الحاجيات الأساسية والضرورية من الخدمات ولا السلع، وهي السوق الإفريقية، وهذا يعني بلغة السوق توفير مزايا اقتصادية ضخمة للاقتصاد الصيني والمغربي لو أحسنا التعامل واستغلال هذا المعطى، خاصة من الرباط.
الاقتصاد الصيني يبحث عن الإبقاء على معدلات نموه المرتفعة، بالتالي عليها البحث عن أسواق جديدة لتصريف الصادرات، وفي نفس الوقت جلب المواد الأولية لصناعتها وبالتالي لن تجد الأحسن والأمثل لذلك أكثر من القارة الإفريقية ما دام أن باقي الأسواق في قارات العالم الأخرى غير قادرة على تحفيز الاقتصاد العالمي بسبب تشبعها بالاستثمارات، وبلوغ معدل الاستهلاك أقصى حدوده.
وما يجعل الأمر مثالياً للرباط هو أن الصين لديها رغبة كبيرة في إزاحة القوى التقليدية المؤثرة في اقتصاد إفريقيا، خاصة فرنسا وأميركا؛ لذلك فالمغرب بإمكانه أن يكون البوابة المثالية للمنتجات والاستثمارات الصينية في هذا الجانب، وما يجعله مؤهلاً للدور أكثر من غيره، هو البنية التحتية الأفضل جودة في القارة، ناهيك عن الانفتاح الذي يحظى به الاقتصاد المغربي مع دراية وخبرة محترمة في إفريقيا، خاصة الفرنكوفونية منها، وبالتالي فالشركات المغربية مطالبة أكثر من غيرها بلعب دور أكبر، وباستغلال هذا المعطى، مع حاجة لقرار سياسي بجعل الصين شريكاً خارجياً استراتيجياً.
على المستوى السياسي، وربما قد يكون الأهم بالنسبة للرباط في الوقت الحالي، فبكين وإن كانت من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، إلا أنها تنأى بنفسها عن أي صراعات إقليمية أو عالمية في الوقت الراهن، ولها مبررات ودواعٍ كثيرة لذلك، وهذا يجعل تأثيرها ليس بالقوة المطلوبة في الوقت الراهن على الساحة الدولية، لكن على المدى المتوسط والبعيد من المرجح جداً أن تكون من اللاعبين الثلاثة الأوائل في العالم إذا لم تكن الأولى، فحتى الولايات المتحدة الأميركية تعي هذا الأمر جيداً؛ لذلك فالعقيدة العسكرية والاقتصادية وحتى السياسية في أميركا يتم تأهيلها من الآن لمواجهة هذا المعطى الحاسم مستقبلاً؛ لذلك فالرباط مجبرة هي الأخرى على التفكير والعمل على هذا السيناريو المستقبلي من الآن.
زِد على ذلك أن الرباط بإمكانها العمل هي الأخرى على قضية مماثلة لقضيتها، وهي "قضية تايوان"؛ حيث إن الأخيرة تشكل هي الأخرى أولوية في السياسة الخارجية للصين، وهو الشأن نفسه بالنسبة للصحراء بالنسبة للمغرب، وبالتالي بمنطق دعم مقابل دعم يمكن أن يستفيد المغرب من هذا الوضع كثيراً، ويحصل بالتالي على دعم صيني صريح في هذا الملف.
المستوى الأخير هو المستوى العسكري، فالصين تسعى لإيجاد موطئ قدم في خريطة الدول الأولى المنتجة والمصدرة للأسلحة ذات التقنية العالية في العالم، بل إن التقارير التي تخرج بين الفينة والأخرى، رغم السرية والحظر الداخلي المفروض، فإن الصناعة الصينية في هذا الصدد قطعت أشواطاً طويلة، وهي على المدى القريب والمتوسط يمكن أن تنافس نظيرتها الأميركية والروسية إذا لم تتفوق عليها كما تفوقت اقتصادياً، وبالتالي فخلق شراكة استراتيجية في هذا المجال يمكن أن يعوض الرباط عن فقدان أي من المزودين التقليديين (أميركا، وفرنسا)، بل الأكثر من ذلك فإن وضعها التفاوضي سيتحسن كثيراً وربما سيتحول من موقع الدفاع إلى الهجوم، وبالتالي لن تحتاج إلى الخنوع لكل تلك الشروط والتنازلات المجحفة من التي يقدمها دوماً مقابل الحصول على أسلحة أميركية أو حتى فرنسية.
من هذا وذاك فبإمكان الرباط إذن التعويض عن الخسارة السابقة، والأكثر من هذا يمكن أن تربح ضعف أضعاف ما كانت تربحه من الوضع السابق، لكن تبقى الكلمة الأخيرة في يد السياسي الأول في البلاد، وهو الملك الذي يبقى المجال مكفولاً له وحده، وبالتالي عليه اتخاذ القرار السياسي المناسب بأسرع وقت ممكن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.