كيف تتحول مصر إلى ألمانيا في بضع سنوات؟

قال ذات مرة موظف رفيع المستوى الآن إنه وأسرته كانوا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الزبائن من تناول القهوة، في حطام مقهى والده ليلعقوا ما تبقى في الفنجان.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/13 الساعة 02:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/13 الساعة 02:19 بتوقيت غرينتش

عندما ننظر إلى الواقع في مصر الآن نجده أكثر ازدهاراً بل إنه لا توجد أي أوجه للمقارنة بين حال مصر الآن وبين حال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.. فمصر الآن رغم ما فيها من مشكلات وما يرتكب في حقها من خطايا، كانت غاية أحلام الألمان أن يصل بهم الحال إلى ما عليه المصريين الآن.. ولكن ما فعله الألمان في 50 عاماً كان بكل المقاييس هو "الإعجاز" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. تحقق فقط لأنهم اختاروا لأنفسهم أقصر الطرق وأكثرها أهمية.

وإذا أرادت مصر أن تحقق ما حققته ألمانيا فعلى المصريين أولاً أن يعرفوا كيف كانت ألمانيا وكيف تكون الآن:

ألمانيا 1945

مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي استمرت من عام 1939 إلى عام 1945، فقدت غالبية المدن الألمانية كل معالمها، فلا بيت واقف في مكانه، ولا شوارع ولا ميادين.. ولقي 20 مليون شخص مصرعهم، وأصبح 12 مليون ألماني شريداً بعد طردهم من ديارهم في شرق أوروبا، وكان هناك 8 ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء، بل إن السوفييت احتفظوا بالأسرى حتى عام 1956 في معسكرات عمل لديهم، ليصلحوا ما هدمته قواتهم النازية.. أما الولايات المتحدة وبريطانيا فأهدتا فرنسا مليون أسير ليقوموا بالمهمة نفسها.

وفوق ذلك هاجمت طائرات الحلفاء في يومي 13 و14 فبراير/شباط 1945 مدينة "دريسدن"، وقتلت 35 ألف مدني، وحرقت جثث مَنْ تبقى مِن السكان في سوق المدينة.

الزعيم النازي أو الفوهرر "أدولف هتلر" الذي وعد الألمان، حين انفرد بالحكم في عام 1934 بأن يجعل من أوروبا منطقة سكن خاصة بشعبه "الآري" الألماني المتميز، والذي يجب أن يتكاثر ليصبح عدده 100 مليون نسمة، وبشرهم بأنه سيوفر لهم فرص العمل والرخاء والصناعة والتقدم، هو الشخص نفسه الذي أمر في آخر أيامه فيما يعرف بـ"أمر نيرو" بتدمير جميع المنشآت الاقتصادية؛ لأن الشعب الألماني خسر في معركة الحياة، وهو نفس القائد الذي وقف جنوده في وجه الهاربين من الألمان المدنيين، الخائفين من انتقام وبطش دول شرق أوروبا التي تعرض سكانها للذل على يد القوات النازية من قبل، فتسببوا في مصرع الكثير من هؤلاء الألمان الهاربين.

(كانت وقتها قوة مصر تضاهي قوة إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وأميركا لدرجة جعلت بريطانيا تضع جلاء الإنكليز عن مصر مقابل المشاركة معها في الحرب، إلا أن الملك فاروق رفض هذه المشاركة وتلك المساومة، تارة لأنه كان لا يثق بقوة التحالف البريطاني ضد الألمان، وكان يتوقع انتصار الألمان ومن ثم ربما تكون العواقب هي خروج مصر من الاحتلال الإنكليزي مقابل الاحتلال الألماني.. وتارة أخرى لأنه لا يريد أن تنتقل الحرب لأرض مصر وتصبح مصر ميداناً رئيسياً للمعركة.. لكنها دافعت عن نفسها عندما امتدت الحرب من شرق ليبيا إلى مرسى مطروح).

فهل يمكن أن تقوم لدولة قائمة بعد كل ذلك؟

بعد خسارة ألمانيا.. ضُم إقليم "السوديت" إلى "تشيكوسلوفاكيا" و"بومرن وشليزيين" إلى بولندا، "بروسيا الشرقية" قسمت بين "بولندا والاتحاد السوفييتي" وعادت "النمسا" من جديد دولة مستقلة تحت اسم "جمهورية النمسا".. وقسمت دول الحلفاء ألمانيا المهزومة إلى 4 قطاعات، هي: ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية ومقاطعة "السار" ومقاطعة "الرور".. ثم بناء جدار "برلين" في عام 1961 وتقسيم ألمانيا إلى جمهوريتين: الأولى: جمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية "ألمانيا الشرقية"، والثانية: جمهورية ألمانيا الاتحادية "ألمانيا الغربية".

كانت ألمانيا حطام دولة، والبنية التحتية دمرت بشكل كامل ، فضلاً عن أن قوات الحلفاء كانت قد نهبت المصانع والآلات تماماً.. وتكفي الإشارة إلى أن فرنسا كانت تأخذ الفحم الألماني لتوفر التدفئة لمواطنيها، في حين تعرض الألمان في شتاء 1946م ـ 1947م لموجة برد بلغت 30 درجة تحت الصفر، تسببت في كوارث إنسانية لا توصف، أما السوفييت فلم يكتفوا بذلك، بل كانوا يقومون بتفكيك المصانع والمعدات من الأراضي الألمانية، لنقلها إلى بلادهم.

إعادة تربية الشعب الألماني

شعب ألمانيا بعد الحرب كان عبارة عن أطفال وشيوخ ونساء كن – بجزء كبير منهن – شاهدات على الاغتصاب الجماعي الذي قامت به القوات البرية التي اجتاحت ألمانيا في ذلك الوقت، فانتشرت فكرة الانتحار حينها كنتيجة للدمار النفسي والاجتماعي.

لم تكتف قوات الاحتلال بتقسيم ألمانيا ونهب ما تبقى فيها من أساسيات الحياة، بل قررت "إعادة تربية الألمان" بحيث يتخلصون من النازية والنزعة العسكرية، ويتعلمون الديمقراطية والحياة السلمية، كما قررت معاقبة النازيين، فجرى تصنيفهم إلى 5 مجموعات: متهمين أساسيين، ومذنبين، ومذنبين جزئيًا، وتابعين، وغير مشاركين فعليًا.

يكفي أن ثلثي سكان ولاية "بافاريا" الجنوبية وحدها تعرضوا للمساءلة، وجرت إقالة 90 % من العاملين في سلك القضاء، وإغلاق المدارس حتى يتم "تطهير مناهجها والقائمين عليها من الفكر النازي"، وكذلك إلغاء دور النشر ووسائل الإعلام كافة، ثم العودة لانتقاء صحفيين يكتبون في ظل وجود رقيب من قوات الاحتلال، يقرر ما ينشر مما يكتبون.

قال ذات مرة موظف رفيع المستوى الآن إنه وأسرته كانوا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الزبائن من تناول القهوة، في حطام مقهى والده ليلعقوا ما تبقى في الفنجان.

الاحتلال مضطر لبناء ألمانيا خوفاً من تفشي الشيوعية

رفض الرئيس الأميركي "روزفلت" لمشروع "مورجنتاو" بجعل ألمانيا دولة زراعية فقط، ووجود قناعة لدى البريطانيين والأميركيين بأنه يجب أن لا يتكرر خطأ ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين فرضت القوات المنتصرة على ألمانيا قرارات مهينة، ما جعلها تتحين الفرصة للانتقام.. ولذلك عرض وزير الخارجية الأميركي "جورج مارشال" في عام 1947 المشروع المعروف باسمه لدعم دول أوروبا، فاتهمه وزير خارجية الاتحاد السوفييتي "مولوتوف" بأن الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان لاستعباد ألمانيا بهذه المساعدات.

ورغم إدراك الألمان منذ البداية أن الأميركيين لم يفعلوا ذلك من أجل زرقة أعينهم، بل لأنهم يسعون إلى الحيلولة دون تفشي الشيوعية في غرب ألمانيا كما حدث في شرقها، علاوة على أن قبول هذه المساعدات مشروط بالتعاون مع بقية الدول المتلقية للمساعدات، بهدف الحفاظ على الاستقرار في أوروبا على المدى الطويل، وأن هذا التصرف نابع من فكر تاجر ماهر، يستثمر أموالاً يعرف أنها ستعود إليه مستقبلاً، فإن المسؤولين الألمان رحبوا بقبول تلك المساعدات، من ناحية لعدم وجود بدائل أخرى أمامهم، ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا قد عثروا على الخطة الطموحة للمستقبل.. أي عدم المكابرة عن قبول المساعدة في وقت الحاجة الماسة، من أقل الأعداء سوءاً، بشرط أن تتفق مع حساباتك، وأن تكون المساعدة هي الاستثناء لا القاعدة، بهدف الاعتماد على القدرات الذاتية في أقرب حين.. لا أن تصبح بندًا ثابتًا في ميزانية دولتك، دونها لا يجد شعبك ما يأكله، ويصبح كل عضو كونغرس صاحب فضل عليك وعلى كل أفراد شعبك.

بدأت النساء والشيوخ ومن كان متأملاً للدمار بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت، فجُمعت الأوراق والكتب من تحت الأنقاض لفتح المدارس، وكُتب على بقايا الجدران المحطمة شعارات تبث الأمل وتحث على العمل، وكان من أكثرها انتشاراً: لا تنتظر حقك، افعل ما تستطيع، ازرع الأمل قبل القمح.

لتشهد بعد ذلك ألمانيا ما بين عامي 1945 و1955 م مرحلة بناء البيوت وسُميت النساء في هذه الفترة "نساء المباني المحطمة"، لينال المنتخب الألماني عام 1954 كأس العالم، كانعكاس على الروح المتحدية حينها لظروفهم القاهرة.

(في تلك الفترة 1952-1970 كانت مصر في منحدر الهبوط بسبب سياسات جمال عبدالناصر تجاه البحث عن الزعامة العربية مهما كان الثمن، ففوّض لنفسه قرار الحرب في كل البلدان العربية التي خسرها جميعاً سواء كانت عسكرية أو مادية.. ثم بدأ تسكين ضباطه الأحرار وزملائهم في شتى مؤسسات الدولة فقط كي يضمن الولاء له غير عابئ أبداً بالكفاءة، ومن ثم جاء الانهيار الاقتصادي أسرع من البرق، حتى انتهى به الأمر إلى استدعاء حرب 1967 دون أية استعدادات لها حتى خسرها وأصبحت مصر محتلة إسرائيلية.. ومن ثم وجب تسخير ما تبقى من اقتصاد الدولة للموازنة العسكرية.. استعداداً للحرب).

كيف استثمرت ألمانيا المساعدات المادية؟

بلغ إجمالي ما حصلت عليه ألمانيا من مشروع "مارشال" حتى عام 1952 ما مجموعه 3 بلايين مارك ألماني، ويرى الكثيرون أنه دون هذا المشروع ما كانت المعجزة الاقتصادية لتتحقق، أو على الأقل في هذا الزمن القياسي.

الخطوة التالية كانت في إجراء الإصلاح النقدي، إذ فوجئ الألمان في يومي 18 و19 مايو/أيار 1948 بالكشف عن هذا الإصلاح الذي كان يقضي بإلغاء عملة "مارك الرايخ" واستبداله بـ"المارك الألماني"، وذلك بأن يحصل كل مواطن يوم 20 مايو/أيار 1948م على 40 ماركًا ألمانيًا مقابل 40 ماركًا رايخًا، ثم 20 ماركًا أخرى في أغسطس/آب من العام نفسه، وتبديل المدخرات بمعدل 10 ماركات رايخ مقابل مارك ألماني، وإلغاء ديون الدولة.

كان البرلمان الألماني قد انتخب في 2 مارس/آذار 1948م أستاذ الاقتصاد لودفيج إيرهارد وزيرًا للاقتصاد في منطقتي الاحتلال البريطانية والأميركية، الذي قرر في 24 يونيو/حزيران 1948م ـ حتى دون الرجوع إلى ممثلي سلطات الاحتلال ـ فرض مجموعة من القوانين للقضاء على السوق السوداء، والإلغاء التدريجي لتوزيع السلع الغذائية تبعًا لحصص تموينية لكل مواطن.

وفجأة ارتفعت أسعار السلع بشدة مقابل انخفاض الرواتب بعد الإصلاح النقدي، وأصبح الموظفون هم أكثر طبقات المجتمع معاناة، فدعت النقابات العمالية للقيام بإضراب عام في يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه احتجاجًا على الفوضى العارمة في سوق البضائع، بسبب الهوة بين الرواتب والأسعار، وشارك نحو 9 ملايين شخص في إضراب لمدة 24 ساعة شلّ جميع جوانب الحياة، ودعت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام إلى إقالة إيرهارد الفاشل، وطالبت المعارضة في خريف 1948م مرتين بسحب الثقة منه.

بعد مرور 6 أشهر فقط أصبح "إيرهارد" الدافع الرئيس لانتخاب المواطنين للحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي، لتولي مقاليد الحكم، بعد أن تبين أن المعجزة الاقتصادية قد بدأت تؤتي ثمارها، وأن "إيرهارد" هو أبوهذه المعجزة.. بعد أن استثنى الموظفين والعمال من هذا القرار كي يسري على الأغنياء وحدهم.

وما بين عامي 1955 و1965م شهدت ألمانيا مرحلة بناء المصانع، حيث تم استقدام عمال أتراك لبنائها . وما بين عامي 1965 و1975م ، ظهرت رؤوس الأموال ورجال الأعمال، وتكفل كل رجل أعمال بتدريب وتعليم 50 شاباً.

وبمرور الوقت توصل الألمان إلى صناعة معدات أفضل بكثير من التي نقلها السوفييت إلى بلادهم، وأصبحت فرص العمل في مصانعهم أكثر من حاجتهم، فجلبوا العمال الأجانب.

(هنحارب هنحارب.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. كانت مثل تلك الهتافات والشعارت هي عنوان المرحلة في مصر 1970-1973 وهكذا بدأ "أنور السادات" الحكم الذي ورثه عن "جمال عبدالناصر" وأصبحت مصر تسخر كل طاقاتها للحرب واستعادة الأرض المحتلة عند الضفة الشرقية لقناة السويس، لا توجد كيانات اقتصادية أنشئت ولا سياسة اقتصادية اتبعت.. حتى انتهت الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 1973 وخرج الاحتلال من معظم سيناء.. وبدلاً من الاهتمام بالاقتصاد الصناعي الذي هو أصل قوة الاقتصاد بعد توقفه 10 سنوات.. اتبع السادات سياسة الاقتصاد التجاري بمعنى أدق سياسة اللاستيراد والتصدير.. والتصدير هنا لم يكن منتجاً مصرياً، بل ما تم استيراده من دول لتصديره لدول أخرى.. وأصبحت "السمسرة" هي السياسة الاقتصادية في مصر.. وانشغل هو في معارك سياسية جانبية مع مَنْ تبقى من شيوعيين وناصريين وإسلاميين).

الوحدة الألمانية.. ألمانيا تستعيد نفسها

لم يلهِ الألمان التفوق الاقتصادي عن هدفهم الأكبر، وهو عودة وحدة شطري ألمانيا، وهي السياسة التي مهّد لها المستشاران الأسبقان "فيلي براندت وهيلموت شميدت"

فمع سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا فُتحت الأبواب بين الألمانيتين ثم هُدم جدار "برلين" وتم أخيراً وفي عام 1990، ضم جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، وعرفت العملية باسم "الوحدة الألمانية" وعادت إلى ألمانيا سيادتها الترابية بعدما فقدتها لأكثر من 45 سنة.

وتمت إعادة إعمار ألمانيا بشكل جميل، وبطريقة متقنة بالنسبة للمباني والطرق، وكذلك بالبنية التحتية المتطورة، رغم أن إعمار الجزء الشرقي من ألمانيا استغرق وقتاً طويلاً.

وتحققت في عهد المستشار السابق هيلموت كول في عام 1990م، بعد مفاوضات "2+4" أي الألمانيتين مع القوات المنتصرة الأربع في الحرب العالمية الثانية وهي: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي، بعد موافقتهما على الشروط التي من أصعبها التنازل عن الأراضي الألمانية الخصبة الواسعة، التي حصلت عليها بولندا عام 1945م عند حدود نهري "الأودر والنايسه" تعويضاً عن الأراضي البولندية التي ضمها الاتحاد السوفييتي إلى أراضيه بعد زحزحة الحدود في نهاية الحرب العالمية الثانية.

(في تلك الفترة بين 1980-2000 كانت مصر تبدو وكأنها في مرحلة السكون أو الثبات على الوضع التي كانت عليه خلال 20 عاماً.. واعتقد وتبنى الكثيرون فكرة أن "حسني مبارك" يحافظ على مصر من المجهول.. فتعامل مع الحكم في مصر بمنطق أمين المكتبة الذي تسلَّم عهدة من مئات الكتب وأرفف خشبية تحمل الكتب.. وظيفة لا تحتاج إلى أي مجهود أو فكر إبداعي.

لن تجد في عصر مبارك أية سياسات اقتصادية تمسّ المواطن.. الموظف منه أو العامل.. سوى بناء بعض الكباري والطرق وقليل من المدارس وعلى استحياء بعض الجامعات الحكومية.. لكن سياسته الاقتصادية أو بمعنى أدق السياسة التي فرضت عليه من رجال الأعمال والأغنياء هي إزالة أي معوقات قانونية وأخلاقية تحول دونما تفشي الرأسمالية المفرطة دون أية اعتبارات للسلام النفسي والاجتماعي للطبقة المتوسطة التي انهارت وأصبحت معظمها تعيش في جنبات الطبقة الفقيرة.. وهو ما أدى إلى زيادة الدين الداخلي لأربعة أضعاف والخارجي لضعفين.

ومع بداية الألفية بدأ الاضطراب السياسي جراء السلام الاجتماعي الذي تلاشى تماماً وتفحل رجال الأعمال أكثر خاصة عندما التفوا حول مبارك الابن بعد أن أصبح الأب أسير نفسه ويعيش على سماع النكات السخيفة والحكاوي الشخصية وفضائح بعض الشخصيات العامة.. والابن ينتزع منه فعلياً كل سلطاته ويبقى للأب سلطة توقيع الأوراق وحضور المناسبات.. هنا كانت الثورة أمراً حتمياً).

أوروبا الألمانية

بعد أن كانت ألمانيا عبئاً كبيراً على أوروبا كما هو الحال مع "اليونان" الآن، بل يزيد عليه أضعاف السوء.. أصبحت أوروبا تتمنى أن تصبح ألمانيا اليوم.. في غضون 50 عاماً تحولت ألمانيا من الضياع إلى أن تكون الأيقونة.. فأصبح الاقتصاد الألماني ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة والصين كواحدة من أكثر الدول صناعةً للسيارات والآلات والمواد الكيميائية والمعدات والأدوات المنزلية، وكرائدة في إنتاج الطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم، كما توجد لديها 37 شركة من أكبر 500 شركة في العالم في مجال أسواق الأسهم العالمية.. ويحتل التعليم والبحث العلمي أهمية بالغة في ألمانيا بعد إعادة إعمارها بوجود 383 مؤسسة للتعليم العالي، منها 103 جامعات و176 معهدًا تخصصيًّا عاليًا. ويقارب عدد الدارسين مليوني دارس، وتحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد براءات الاختراع.. ومازالت تسير قدماً نحو منطقة لن يستطيع أحد في العالم الوصول إليها بعد ألمانيا إلا بعد 50 عاماً على الأقل.

(مصر اليوم في عهد "عبدالفتاح السيسي" الذي تسلم مقاليدها بإجماع شعبي غير مسبوق بسبب العام الذي حكم الإخوان المسلمين من خلاله حكم مصر.. هي كألمانيا حال ألمانيا في 1955.. تعتمد على المساعدات الخارجية من الدول المجاورة حفاظاً على عدم انهيارها واستعادة بنائها.. لكن الفارق أن ألمانيا استخدمت المساعدات في البناء الحقيقي والسريع، واعتبرت المساعدات استثناءً لا تريد تكراره.. ولم تستخدمه في مشروعات سياسية عاطفية أكثر من كونها مشروعات ذات إنتاجية حقيقية وتعتمد في المقام الأول على استغلال الموارد البشرية تجنباً لتفشي معدلات البطالة أكثر من هذا.. ولم تستخدمها في إنشاء مدن للأثرياء لا جدوى منها لدى المواطن العادي الذي مثل 90% من المصريين.. ولم يعلن حتى الآن خطة مستقبلية لاقتصاد مصر على المدى القصير والطويل).

اعتقد من عاصر حالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أنها لن تعود يوماً لتحمل حتى نواة دولة، إلا أنها استحقت الولادة من بعد الموت بقوة نسائها قبل رجالها، وبمن نهض بها من القاع لتغدو ما هي عليه اليوم من دولة ديمقراطية، اشتراكية، تشريعية، وفي صدارة الدول الغنية والمتقدمة علمياً واقتصادياً.. ومن عاصر مصر في نفس الفترة لم يكن يتخيل أن يصل بها الحال إلى هذا الوضع المتردي في كل شيء.. فلا ديمقراطية ولا عدالة اجتماعية ولا تشريعات تحفظ للمواطن حقوقه وانهيار اقتصادي وثقافي وصحي وتعليمي.. ويبدو أن التردي لن يقف عند هذا الحد وأن مصر ينتظر مستقبلها مزيداً من الانهيار طالما تتبع نفس السياسات والأفكار الهدامة التي ظلت 70 عاماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد