أي نجاح لأي عمل أو شخص يكون وراءه أسرار جعلت هذا العمل جديراً بأن يشغل فضاء الإعلام اليومي، وأن يمتد تأثيره ليشغل حيزاً من تفكير المواطن البسيط الذي يجري وراء رزقه اليومي.
اليوم نحن بصدد رواية وفيلم "هيبتا" للكاتب محمد صادق، التي شغلت الرأي العام بين مؤيد تماماً لما طرحه في الرواية، ومن بعده الفيلم، وبين معارض تماماً؛ لأنه يرى أن ما ورد في "هيبتا" من أساليب دس السم في العسل.
إذا بحثنا لماذا انتشرت الرواية انتشاراً واسعاً ومن بعدها الفيلم، حتماً سننظر إلى قضية "هيبتا" التي تناقشها، وهي قضية الحب، وبشكل خاص الحب بين الجنسين، هذا الحب وهذا النوع من الحب الذي كبته وما زال يكبته المجتمع لحجج واهية مختلقة حتى بين الزوجين على سنة الله ورسوله.. مشكلة مزمنة فكرتها أن الحديث عن الحب شيء حرام، والتعبير عنه من المستحيلات، فأصبح لكل واحد مفهومه الشخصي، فالبعض يعتقد أن بنية الحب الأساسية هي الجنس، فلا بد من وجود جنس لطيف لتكتمل حلقة الحب، وهناك من لا يعرف إلا حب الصديق، والآخر لا يعرف إلا حب الوالدين، وهناك من يكفر هؤلاء كلهم ولا يعرف إلا حب الله، وما عداه ليس سوى بدعة!
المشاعر في بلادنا أصبحت في مأزق، فتم إحلال الكُره مكان الحب حتي صرنا في بلادنا نكره الحب ذاته، بل نعيب من يتخذه منارة لحياته.
في بلادنا أصبح الحب رذيلة والكُره فضيلة..
في بلادنا صرنا وصار عالمنا في اغتراب، وأصبح الاغتراب يتكاثر شيئاً فشيئاً، وأصبح الفرد العاقل في بلادنا كلهيب الشمعة يُضيء وحيداً، ولا يستفيد من إضاءته سوى نفسه، ولا ينتفع به مَن حوله، بل من حوله يسعون بكل قوة لإطفاء لهيبه، ولهيبه في ذلك الوقت يصير أضعف الأحرف فينطفئ بلا رجعة.
في بلادنا الفضيلة تجد نفسها قد وقعت في ملهى ليلي، أو لتقُل أقذر شيء، ولكي تصير حياتك هادئة بفضيلتك عليك أن تفتح عينيك لتظهر لمن حولك أنك معهم، ولكن بالجسد ليس إلا، ثم تنجو بروحك بأن تخلق لها خيالاً خصباً تمقت فيه الرذيلة والعادات القديمة والمعقدات الملوثة، ثم تعود من خيالك لتوافق مَن حولك في آرائهم… أليس هذا يا سادة يسمي اغتراباً، بل إنه اغتراب زمني ونفسي، وقد يكتمل بالهجرة ليصبح اغتراباً مكانياً.
ولكن على أي الحياتين سيحاسبنا الله.. على حياتنا التي نستميل فيها الرذيلة ونتعايش معها أم على حياة الخيال التي هي بيننا وبين أنفسنا؟.
فما كانت نتيجة ذلك الكبت لرغبة إنسانية تنمو مع نموه العمري، رغبة تحتاج لإشباع مثلها، مثل رغبة الأكل كان من نتيجتها ظهور التعلق كمفهوم مضاد ومنافس لمفهوم الحب من رحم الكبت.
ولكن السؤال الأهم: هل ما ناقشته "هيبتا" هو الحب أم التعلق؟!
أو بصيغة أخرى هل كاتب الرواية والممثلون وكاتب السيناريو الذين عانوا من الكبت وعدم معايشة المفهوم الصحيح للحب اختلط عليهم الأمر ما بين الحب والتعلق والتنفيس؟!
هل كاتب الرواية تأثر بطبيعة مجتمعه الذي لا يعرف شيئاً لا عن الجنس الآخر فكيف يعرف أن يجد طريقه ليحبه بها، الذي وصل تقرير شرطة الآداب فيه في إحدى السنين إلى أن عدد حالات التحرش وصلت إلى 9 آلاف حالة و329 حالة هتك عرض و112 حالة اغتصاب.. هل تأثروا؟
أستطيع أن أجيب بنعم!
نعم ما عرضته "هيبتا" هو تعلق وليس حباً!
نعم ما عرضته "هيبتا" هي تجليات مراهقين وخيالات لهاجس الإشباع لدى الشباب والفتيات!
نعم "هيبتا" تعرض تشريحاً دقيقاً لمفهوم مرض "التعلق" الذي ينتهي بالانتحار!
الحب لا يُعقبه انتحار حتى وإن انتهى وجوده!
النفس التي أحبت تعرف قيمة الحياة ولا تجعلها تضيع هباءً منثوراً!
أنت والحب:
فالحب الذي تحكيه "هيبتا" ليس هو النموذج المثالي للحب، أتعرف أنك في الحب لا تحتاج إلى امرأة أو إلى صديق أو إلى أي شيء آخر.. نعم أليست كل علاقة هي من طرفين سيكون الطرف الأول هو أنت والطرف الثاني هو الحب، عليك أن تُقنع الحب بُحبك له أولاً وعليك أن تقتنع بصدق حب الحُب لك، وحينما يعشق بعضكما بعضاً ستُصبحان واحداً، حينها ستكون مُحتاجاً لطرف آخر تُمارس معه ما تعلمته في السابق، فتجد الحب في امرأة حسناء، وقد تجده في صديق، أو في أخ أو في أم أو أب… ولكن لا بد أن تنجح علاقتك أولاً مع الحب لتنجح مع الآخر.
ويقول جلال الدين الرومي في كلامه عن الحب: هل من وسيلة ما لفهم معنى الحب دون أن تصبح حبيباً في المقام الأول؟
فالحب لا يمكن تفسيره ولا يمكن معايشته واختباره، ومع أن الحب لا يمكن تفسيره فهو يفسر كل شيء..
إننا لسنا بحاجة للبحث عن الحب خارج أنفسنا، بل كل ما علينا عمله هو أن نتمكن من إزالة العقبات التي تبعدنا عن الحب في داخلنا.. فالحب والعشق سر غامض لا يفهمه أحد، ويجب أن يظل خفياً عن الأعين مهما حدث، وإذا تم ذلك فإنه يكون أشد قدسية، وسيحترم أحدهما الآخر، بل إن الكثير يتوقف على احترام أحدهما للآخر. وما أن يتحابا، وما أن يتزوجا على أساس ذلك الحب، فلا سبب هنالك يدعو إلى زواله، وإنما باستطاعتهما أن يحافظا عليه بالتأكيد، ونادراً ما يصعب الاحتفاظ بالحب، صحيح أنهما لن يحب أحدهما الآخر كما كانا يفعلان قبل الزواج إلا أن حبهما سيكون أفضل بعد ذلك؛ لأنهما سيتحدان بالروح بعد أن اتحدا بالجسد. وسيشتركان في تصريف أمورهما، ولن تكون هنالك أسرار بينهما.
وقد يكون عدم وجود أسرار هو أسباب زوال ذلك الحب وبقائه على قدر فهم وطبيعة شخصية كل منهما!
فشعور العشق يغير اللحظة التي أنت بها، ويُحيلك من علم إلى عالم تأخذك الدنيا إلى جانبها المضيء لتنعم فيه، فترى كل أمرك نقط مضيئة، وتُبصر الأشياء كأنك لم تألفها من قبل، شعور يُستوي فيها كل العاشقين، شعور بحلو الذات، شعور انبثاق المولود من بطن أمه، إيذاناً ببعث جديد.
يمر العاشق على هذه اللحظة أو قُل لحظات، وبين حين وآخر يحاول استنساخ هذه اللحظة وهذا الشعور كلما ساءت حاله، ولكنه كأي حال لن يستمر هذا الشعور أبد الدهر، فيتوه بين فراق من أحبها أو بين مشاغل الحياة أو بين دسائس الظروف، التي تطوي بنارها كل أمل وتطفئ كل بريق، فالعمر لحظات بعضها عسيرة وبعضها يسيرة سهلة التعايش، وبعضها حلو المذاق، ولكن يظل الإنسان يفتش عنها بـ"ملقاط" عن لحظات السعادة ليغتنمها بعيداً عن سكك وطرقات التوهان، فيتولد الحنين إلى زيارة تلك اللحظات بكل ما تحمله من ذكرى، سواء ذكرى المكان والأشخاص وأحياناً تصل إلى ذكرى أدق التفاصيل.
فالعاشق إذا عشق تملكته المودة والرحمة والحب، فجمع بين فضائل الخلق جميعها، فتراه ليس هو الإنسان الذي يتعامل مع الآخرين، فتعامله مع معشوقته مختلف يدخل إلى درجة أن يتحول إلى إنسان بشطرين كلاهما لمحبوبته ومعشوقته.
ويقول جلال الدين الرومي في كلامه عن العشق: لا قيمة للحياة من دون عشق، لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده روحي أم مادي إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي؟ فالعشق ماء الحياة والعشيق هو روح من النار.
فالعين هنا إن لم يكن للسان دور بعد، تأخذ هي بيد مركب العاشقين فتكون هي البريد، وتكون هي الوقود لكي يستمر العشق، فينبثق مولود جديد في كل منهما، وهو فهم كلاهما للآخر، ففي هذه اللحظة يعرف العاشق ماذا يريده وبأدق التفاصيل، فيفهم مع نفسه ويصدقها في كل أموره.
فورد في الأثر: أن الشراب حلو ولكنه يورث الشرق.
فشارب الخمر يصحو بعد سكرته ** وشارب الهوى يظل أبد الدهر ولهان سكران
حسنات "هيبتا":
وهنا "هيبتا من حسناتها القليلة أنها تدعو إلى الخيال في الحب وتعتبره من أساسيات الاستمتاع بالحب -وتلك إحدى نقاط الاتفاق مع هيبتا- فسر الحب والعشق في "الخيال" الذي هو الأرض الخصبة للعشق.
هو جزء سحري ليس له أبعاد.
مهما تحاول أن تشرحه تنقص عن إيصاله.
هو روح الحب والرحمة والمودة والإيمان.
هو كالصحراء ولكنها صحراء خضراء.
هو كالصبار النافع!
هو الذي يؤنس البؤساء.
هو في نفع حبة القمح وفي لمعان حبة اللؤلؤ.
هو الذي يحيل قلب الليل إلى نهار.
هو الإحساس الذي ينقلك إلى دنيا العقول والمشاعر.
الخيال رزق رباني وموهبة خلاقة.
فالخيال يرى أبعد من الوجود وتستعين به على الموجود.
فالخيال يصنع للعاجزين الأهوال.
الخيال يبدأ عنده سقف الفهم وتقوى من خلاله حد الرؤية.
فالعشق مرتبط بفزورة "الجمال".
تلك الحقيقة التي تشرح نفسها بنفسها دون الحاجة إلي واسطة.
فالجميل بعين العقل مختلف تماماً عن الجميل بعين القلب.
فالأخلاق قد تجمل إنساناً ولكنه سيظل جميلاً في العقل فقط.
حتى الصدق خشن يحتاج إلى سياق حلو لتقبله وشرحه.
سر الجمال في النفوس التي ترى وتشاهد وتصغي، فلحظة الجمال هي لحظة انسجام.
الجمال قيمة تُطلب لذاتها.
إنه سر..من عشق!
فالصوفي يقول: فالعاشق متى عشق صار القلب ربانياً والقول أزلياً.
تقول هيبتا: عاشق ومعشوق.
نعم هي أصح تعبير ذكرته الرواية لا بد من عاشق مناسب لمعشوق، الاتنين مخلوقين لبعضهم البعض…
تلك الروح التي تقاسمت وجعها وفرحها مع روح أخرى…. "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"….. تلك الروح التي اختلفت في قانونها عن أي قانون آخر وهو قانون الجذب، كل الأشياء خضعت لقانون أن التجاذب يحدث بين التضاد، إلا الروح فالتجاذب يحدث عندما تتشابه الروح عندما تتفق، عندما تتوافق، عندما تتكامل، ورغم تشابههما يكونان عاشقاً ومعشوقاً، قانون جذب غريب ومعقد خاص للبشرية، وفقط أصله تجاذب المتشابهين، بل ويصبحان عاشقاً ومعشوقاً متكاملين ومتشابهين متوافقين وعاشقين، يا ليتها من روح لا نعرف من هي وكيف لعقل محدود يعرف شيئاً لا حدود له كالروح، وكما قال ربنا: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، الروح التي يجب أن تجدها داخل نفسك لتهتدي إلى الروح التي تكون سنداً لها، قد تكون روح صديق أو روح حبيب(ة) يكون لها نصيب من سعادتك في حياتك، وكيف لرجل أن يحيا في شتاء دون أنثى روحها مبعث حياته؟
الروح هي المكون الأساسي الذي يحرك ذواتنا.. هو ذلك الموجود الذي يكون ما تحت جلدنا ويشكل شخصيتنا ويضع مبادئنا ويجعلنا نفعل الخير أو الشر..
كلمة النهاية:
لا تتركه يقف متحفزاً على ناصية العاشقين يدخل إليه كل من يصادفها في فضاء الهوى، فجرت العادة أن إبقاءه فارغاً قد يكون فيه صلاحه، فاستعماله يجري لمرة واحدة فقط، ولما تتعدد المرات ستكون محاولة لتصحيح فساد تلك المرة، فما أفسده الهوى لا يصلحه أبداً الهوى، فاتركه ينعم بالحياة ويعيش حراً إلى أن يأسره الهوى، فأسره لذة، وتعبه شوق، ودموع أسره حنين، فلا ترهقه، ولكن اتركه والهوى سيترسل إليه، فاتركه الهوى يصطاده فحينها سينفطم قلبك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.