بعيداً عن "السياسة" و"العلاقات الدولية" أختطف هذه المساحة كي تحتضن موضوعاً مغايراً.
أبعث هذه الكلمات وأنا أتأهب حازماً متاعي لرحلة عودتي أو ذهابي قريباً إلى الكويت -حرسها الله- عقب "خلوة" اختيارية دامت أربعة أشهر ونيفاً في مدينة بوسطن الأميركية.
رحلة لم تكن الأولى إلى الولايات المتحدة ولا إلى تلك المدينة، ، لكنها حتماً كانت مغايرة عن سابقاتها؛ حيث جاءت بعد مرحلة وأحداث مميزة.. وانطوت على مثل ذلك.
وقد تردّدت كثيراً في نشر هذه الومضات علّها تظل موقدة لو كانت تحرسها دفتا المذكرة، لكن قررت أن نشر بعضها قد يعرضها لريح توقدها أكثر.
من أبعد ما قد يتصوره الإنسان ومن آخر ما قد يخطر في باله أنه قد يتعلم عن "استمداد" و"نسبة" و"حد" العلوم الإسلامية الشرعية وسواها من تفصيلات في "الغرب".. فشكراً للجامع الكبير (ISBCC)، ذلك المركز المتميز في تكوين مجتمع محافظ متفتح ومبدع متجذر، مجتمع يمزج بين الوطنية والدين مجدداً الولاء لكليهما دون حرج ولا تردد.
ولعل المركز من المساجد النادرة الذي يحتضن علناً اجتماعات مجموعات التغلب على الإدمان وجلسات صحة عقلية وغيرها مما يخدم مختلف البشر، بل ويجري كذلك جولات تفقدية على الأحياء المجاورة لملاحظة قصور خدمات البنى التحتية.
شكراً لذلك الشيخ المسن الذي أسرّ إليّ فرحاً مسروراً بأنه "وجد الله سبحانه" في شبابه على ضوء مدفأة غازية كانت تستعملها والدته للإضاءة وللطهي بجانب استخدامها الأصلي من شدة الفقر؛ ليجدد في ذهني معاني "كأنّك تراه" في تلك القصة التي وجد فيها على النار هُداه.
شكرا لـ"آندرو".. ذلك المشرّد المقعد على جسر جادة "بروكلاين"، الذي وإن كان قد فقد المأوى والصحة والعمل، إلا أنه ظل متشبثاً بابتسامة مشرقة قل نظيرها فألقى إليّ استبشاراً واصطباراً وتفاؤلاً قبل أن ألقي في كأسه الفارغة قطعاً معدنية.
شكراً لـ"أمينة".. تلك السمراء التي تفترش محطة "بارك ستريت" يومياً في نفس الساعة وفي نفس الزاوية، ترتب المشغولات اليدوية البسيطة بعناية ورعاية ودقة وكأنها تعرض قطع أزياء في واجهة محل فخم أو تحفاً أثرية في متحف عتيق، ثم إذا ما انتهت جلست بجوارها بفخر وصارت توجه أي زبون محتمل بأن عليه أن يلمس ويحمل ويلبس ويجرب، وكأنها تأمر!
شكراً سهيلة "خانم" وفرانشيسكا "خانم" على تجربة فريدة في تعلم (الفارسي) وقبلها.. على كونكما مصدري إلهام! نساء فريدات، أولاهما تتقن أربع لغات وتقوم بتدريس اثنتين منها، والثانية في طريقها لتعلّم اللغة السادسة!
بوسطن هذه المرة مختلفة، فلا خال يُعاد في المستشفى، رحمه الله وأحسن إليه وتغمده في عليّين، شهدت هذه المدينة فصولاً طويلة من صبره على المرض.
بعيداً عن بوسطن، بل عن سائر العالم المادي المتسارع، شكراً للزاوية النقشبندية العثمانية على الضيافة والبشاشة والدعاء. أسسوا مجتمعاً يكتفي ذاتياً من حاجاته الغذائية الأساسية الملموسة، والروحية حتماً. يتعايشون مع بعضهم البعض متآخين تحت شعار "الأدب" في مسلك يعلي قيمة العمل وينبذ الجدل والكسل، لا تسمع صخباً إلا من طرق المعادن أو جز صوف الماشية ولا ضجيجاً إلا من نجارة أو حرث، يعملون في تلك المزرعة كأنهم يعيشون فيها أبداً، ويلهجون بالأذكار والأوراد والابتهالات كأنهم يغادرونها بالموت غداً، يأكلون ويشربون ما يسد جوعهم فقط وفي ذات الوقت وعلى ذات المنوال في انضباط دقيق لا تجد له مثالاً إلا في الجيش، في حضرتهم انطوت الأكدار وضجّت الأفكار، ففي مثل تلك الواحات لا "يزدك الوِرد إلا عطشاً"!
شكراً لكل من برهن لي عن أنه غير ذي حاجة؛ حيث لم أعانِ فقده ولم ألحظ انقطاعه في تلك الفترة حين صدّق وآمن، بل وطبّق "بعيد عن العين، بعيد عن القلب"، أما من افتقدتهم فلا تفيهم الكلمات، عسى الله أن يمتعنا بطول بقائهم.
شكراً لمن أوصى بكتاب (نهاية الانتماء) للدكتور "Greg Madison"، الذي كانت لقراءتي له طعم خاص، وأنا على متن طائرة بين سماء وأرض؛ حيث يناقش، من زاوية نفسانية بالمعظم، مفاهيم "الوطن" و"المنزل" و"الاستقرار" منذراً في الختام من عالم لا ينتمي فيه أي منا إلى أي مكان! ومن اللافت أن الأديبة "Anita Desai" ترى الانتماء من زاوية معاكسة حين تقول: أينما تذهب يصبح جزءاً منك بشكل ما، وهي من خير من يترجم تلك المفاهيم فقد ولدت في الهند لأب "بنغالي" وأم ألمانية وتنزل الولايات المتحدة.
الشكر الجزيل لأبي حفظه المولى ورعاه على أن قدح في فكري مشروع هذه الرحلة، لشقيقتي على الصحبة الطيبة وللأخ الصديق الصدوق فرّاج على ما أغدق علي به من أُنس و ثقافة.
شكراً لمن وما سيترك في نفسي طيب أثر.. من هذه اللحظة وحتى ركوبي الطائرة!
حمداً لله على كل شيء، حمداً له جل في علاه على الخواص من الأمكنة والأزمنة والأشخاص!
(كَلِمات أُخَرْ)
مَشَيْناها خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنا ** وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشاها
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.