كنت قد كتبت دراسة حول "النظامان البرلماني والرئاسي ومستقبل الثورات في بلدان العالم العربي: معضلتا الانتقال الديمقراطي والتقدم الاقتصادي"، نشرت العام الماضي في العدد 15 من "المجلة المغربية للسياسات العمومية".
وكان من نتائج تلك الدراسة أن النظام البرلماني ساهم في إنجاح الانتقال الديمقراطي في عدد كبير من البلدان التي اتبعت ذلك النظام، فإسبانيا وجنوب إفريقيا خير مثال على ذلك، بينما فشلت أغلب الدول التي اتبعت نظاماً رئاسياً في تأمين الانتقال إلى الديمقراطية بعد الثورات، ومنها أغلب دول أمريكا اللاتينية.
أما في الشق الاقتصادي فقد توصلت الدراسة إلى أن البلدان ذات النظام البرلماني حققت نتائج اقتصادية كبيرة، وخير مثال على ذلك جنوب إفريقيا ودولة بوتسوانا التي تشكل المعجزة الاقتصادية الإفريقية، بينما في القارة السمراء غرقت أغلب الأنظمة الرئاسية في مشاكل اقتصادية كبيرة رغم غنى بعضها من حيث الموارد الطبيعية والمؤهلات الاقتصادية.
كان هدف الدراسة هو تبيان المزايا الاقتصادية والسياسية للنظام البرلماني بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تجتاز مراحل ثورية كبيرة، والتي تمر من مرحلة بناء المؤسسات السياسية ووضع القواعد الدستورية. وكان في الآن ذاته محاولة للدفاع عن دولة القانون التي أنهكتها السلطوية خلال خمسين سنة من حكم الديكتاتوريات في هذه المنطقة من العالم، التي تنتظر موجة ديمقراطية منذ سقوط جدار برلين على الأقل.
لقد نجحت تونس تقريباً في الاقتراب من هذا الحل، من خلال تبني نظام دستوري هجين، ابتعد بشكل محتشم عن الرئاسية الفجة التي حملت في أحشائها الديكتاتورية والتسلط لهذا البلد. لكن تونس نفسها لم ترسخ نظامها البرلماني بعد، وتحتاج بعد الدستور لوضع تقاليد سياسية ترسخ الروح البرلمانية للمؤسسات السياسية التي ستنبثق عن الدستور الجديد. فتونس، وبعد كل هذه العقود الطويلة من حكم ديكتاتورية الفرد، ستبدأ في الاقتراب من روح الديمقراطية إذا نجحت في قطع الطريق على السلطوية بواسطة نظام يحد من تغول الحاكم الفرد.
لقد افتتحت تلك الدراسة بما يلي:
"بينما تتجه تونس لتبني نظام أقرب إلى البرلماني منه إلى الرئاسي سيكون السادس في القارة الإفريقية بعد أنظمة جنوب إفريقيا وبوتسوانا والرأس الأخضر وجزر الموريس وناميبيا، فإن رجب طيب أردوغان اختار أن يعطي لنفسه صلاحيات واسعة في رئاسة تركيا المقبلة، وبالتالي زحزحة نظامها البرلماني في اتجاه رئاسي. وفي الحالتين فإن هدفي البلدين يختلفان بشكل كبير؛ فتونس تبحث عن توافق واستقرار سياسيين ونتائج اقتصادية تؤمن الانتقال الديمقراطي بعد ثورة الياسمين، أما زعيم تركيا فيضع أمامه تحقيق أهداف سياسية، تتجلى في القضاء على سلطة حركة فتح الله غولن المتغلغلة في دواليب الدولة التركية، وبناء زعامة تركية لمواجهة التحديات الخارجية. إن التاريخ وحده من سيحكم على الاختيار المؤسساتي الذي يقوم به أردوغان هذه الأيام. فبعدما استفادت تركيا من نظامها البرلماني لتحقيق معجزة اقتصادية خلال العقد الماضي، اختارت الآن أن تحاول تغيير هذا النظام لتحقيق أهداف أخرى قد لا يحظى فيها النمو الاقتصادي إلا بأهمية ثانوية".
ربما كان هذا النقاش يتم فقط في الكواليس في تركيا قبل سنة ونصف لما كتبت هذا، لكن استقالة رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو قبل أيام من رئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم بينت إلى أي حد يؤدي صراع السلطات في تركيا إلى التضحية أولاً بالكفاءات البشرية، وبعد ذلك ستأتي مرحلة التضحية بالتقدم الاقتصادي، ثم فيما بعد سينتهي الأمر بزعزعة الاستقرار السياسي نفسه، وهذا كله بسبب النزوع الرئاسي في الحكم.
لقد نسي المدافعون عن النظام الرئاسي في تركيا أن القوة الناعمة لتركيا الحالية، والخشنة أيضاً في بعض الملفات، إنما تحققت بسبب نجاحاتها الاقتصادية وبسبب متانة المؤسسات السياسية التي حدت من سلطوية الحكام خلال العقد والنصف الأخير. إن أردوغان نفسه لم يكن ليحقق أي نتائج تذكر لو كان منذ البداية تحت سلطة رئيس دولة بسلطات تنفيذية واسعة، تحد من سلطة حكومته ومن سلطات البرلمان المنتخب.
يقول أنصار النظام الرئاسي إن تركيا أصبحت في حاجة لنظام رئاسي؛ لأنه سيعطي دفعة للسياسة الداخلية والخارجية، وهذا تحليل مجانب الصواب مرتين؛ لأنه سيقوي صلاحيات رئيس الدولة على حساب سلطات رئيس الوزراء وحتى البرلمان، وعلى أردوغان وأنصاره أن يفكروا جيداً فيمن يمكن أن يرث هذا المنصب في المستقبل وما الذي يمكنه أن يوظفه فيه. أما بالنسبة للسياسة الخارجية فهي أقل أهمية في ميزان الدستور من الحرية السياسية ومن الحد من سلطات الحاكم في تاريخ الأمم، إن الدستور يوضع لحكم الداخل وليس لحكم الخارج.
في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ حيث ينظر عدد هائل من الناس بإعجاب للنهضة الاقتصادية التركية، ويتتبعون التنافس السياسي فيها، يهمنا هذا النقاش الطارئ حول المؤسسات السياسية في تركيا لأسباب ذاتية حقيقية؛ لأن أغلب البلدان التي انهارت فيها الأنظمة لم تضع بعد دساتير جديدة ولم تصمم مؤسساتها السياسية بعد، ولا نريد أن نرى النظام البرلماني الأقدم في المنطقة يختفي لصالح النموذج الرئاسي الذي حمل الاستبداد والفقر والانفجار الاجتماعي لهذه المنطقة من العالم.
في نظر الديمقراطيين يجب أن يكون اختفاء أي نظام برلماني يوماً حزيناً للديمقراطية والحرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.