كلما كثر الحديث عن المرأة بدا الرجل متهماً، وكأن معضلة المرأة في عالمنا العربي الإسلامي تكمن في صراعها مع الرجل.
إن حصر القضايا المرتبطة بالمرأة في صراع النوع، بين رجل وامرأة، هو تضليل لقضايا المرأة وتكريس لعقلية الصراع التي لم يقُل بها عقل ولا دين.
إن علاقة المرأة بالرجل علاقة تحمل من التداخل أكثر ما تحمل من التميز، بحيث لا يمكن رسم حدود فاصلة في هذه العلاقة في حقوق وواجبات واختصاصات؛ لذلك فالمبدأ الذي يحكم هذه العلاقة هو مبدأ قيمي أخلاقي أكثر منه حقوقياً واجباتياً، مع ضرورة هذا الأخير، ولذلك نجد في التصور القرآني تكرار لفظ المعروف في كل أشكال العلاقات الإنسانية عموماً بين المرأة والرجل، وعلى وجه الخصوص في حالة الزواج الذي تتحدد له حقوق وواجبات لهما معاً، فقبل وبعد هذه الحقوق والواجبات، تتأسس العلاقة على مبدأ قيمي أخلاقي رفيع، وهو مبدأ المودة والرحمة.
قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[الروم:21]، وقد اقترنت المودة بالرحمة لتحقيق السكن؛ لكون المودة لوحدها قد لا تكون كافية لتأسيس أسرة متماسكة مقبلة على الخوض في دروب الحياة ومراحلها، فالرحمة أشمل من المودة وأضمن للبقاء، فقد جاء رجل إلى عمر رضي الله، وقال: [إني أريد أن أطلق زوجتي، قال: ولِمَ؟ قال: لا أحبها يا أمير المؤمنين! فقال عمر: أوكل البيوت تبنى على الحب يا رجل؟ أين الوفاء والعهد والتذمم؟ أين هذا كله؟]، فلما سكن الرجل رأى زوجته بعد مدة أنها هي المرأة التي يجب أن تكون له.
للرحمة دلالات أوسع، فهي تجعل الإنسان، رجلاً وامرأة، يتجاوز تلك التفاصيل الدقيقة التي تصدر من سلوك الشخص، والتي قد تؤثر بشكل سلبي على مجريات حياته اليومية، فلا يكون نظره ضيقاً حرجاً سريع التوتر، بل متسعاً مستوعباً لكل ما قد يعترضه من طرف الآخر.
كما تحمل الرحمة دلالة عميقة، في كونها ترسخ الحنو القلبي والعطف الدافئ، مما يكسب الإنسان إتيان سلوك الفضيلة، من التماس للعذر، وقوة التحمل، والصبر، وحسن التفهم والتهمم، فتهتم المرأة لحال الرجل وتتفهمه، ويهتم الرجل لحال المرأة فيتفهمها، بحسن الظن وجميل الود، وطيب القول، وحكمة الخطاب، ولين الجانب، واعتدال عند نزول نازلة، فمن دون حضور لمعاني الرحمة في سلوك وتعامل المرأة والرجل، على كل المستويات أبوة وبنوة أو زوجية أو أخوة أو غيرها من العلاقات الإنسانية، قد يحولها إلى علاقة حديدية يحكمها الحساب الجاف الذي يلخصها في واجبات وحقوق، فتصبح أشبه بعلاقة عاملين في ورشة واحدة يتنافسان على تحقيق أكبر ربح.
فالمرأة إذا نظرنا إليها بعين القوة والقدرة والتمكين، في مختلف المناصب والمجالات، بنية المنافسة للرجل، مع استبعاد تام وإقصاء لمعاني الرحمة والود والحنو والأمان، التي هي أحوج ما تكون إليها، قد ننهكها ونتعسف بأجمل حقوقها، ونفصلها عن فطرتهاً.
فقدرتها على خوض تدافع الحياة، وتحمل أعبائها، وقدراتها على النجاح وتحقيق الرقي لها وللمجتمع، لا مراء فيه ولا يجادل فيه عاقل؛ لكنه لا يغنيها عن اهتمام الرجل واحتمائها به مهما كانت قوية، ليس لضعف فيها، إنما لفطرة جميلة فطر الله الناس عليها، تكمن في إشعار أحدهما الآخر بأنه يرعاه ويحميه ويهتم لأمره،كل من موقعه بكل معاني المودة والرحمة.
لكن المعضلة هي في فهم هذه القيم وتنزيلها، بحيث إن اعتبار الرحمة ضعفاً واستكانة قد يحمل الرجل ما لا يطيق أو المرأة، بل ينبغي أن تكون حاضرة على أساس معانيها المتكاملة في ما بينها مع مراعاة مواطن القوة واللين؟
لا تعارض في الرؤية القرآنية بين القيم والقوانين، فلا ينبغي تجاوز الحقوق والواجبات باسم القيم والأخلاق، كما لا يستوي تأسيس مجتمع على القوانين الجافة دون استحضار القيم والأخلاق والعمل بها كتربية وروح تسري في الإنسان لتنطق بإنسانيته ونبله.
فالمعروف هو القناة التي تتحرك داخلها الحقوق والواجبات في رؤية القرآن الكريم، وهو الهرمون الذي يغديها، فتشتد وتقوى ويمكنها من الاستمرارية والتكامل،كما يجنبها الجفاف الذي يولد الاحتكاك والصراع والتقابل والتصادم.
إن النظرة الحقيقية للمرأة والتصور الكوني لها لا يمتلكهما الرجل ولا المرأة نفسيها، بل إنهما معاً جزء لا يتجزأ من رؤية كلية عالمية كونية، تحكمها قوانين الفطرة والاكتساب.
إن تردي وضعية المرأة في عالمنا العربي الإسلامي، الذي يرصده الواقع في صور العنف والتخلف والتراجع والتهميش والاستغلال… رهينة بتردي وضعية مجتمعات بأسرها وتراجعات أمة في مختلف المجالات، وليست في علاقتها بالرجل فحسب، فالإحاطة بوضعيتها بعيداً عن حال الأمة وواقعها لا طائل من ورائها.
إن الصورة المشرقة والمضيئة التي رسمت للمرأة زمن التجربة التأسيسية النبوية، التي بدت فيها المرأة كاملة الإنسانية والكينونة منسجمة مع فطرتها، من خلال قيامها بدورها في تشييد العمران وبناء الإنسان، عبر امتلاكها لرؤية تكاملية في علاقتها بالرجل تتأسس على المودة والرحمة، ومن خلال اهتمامها بالعلم والمعرفة وحرصها على تدبير شأنها وشأن بيتها واهتمامها بالشأن العام، ومن خلال معرفتها بحقوقها واستزادتها منها وإدراكها لواجباتها وإتقانها، ومن خلال مشاركتها جنب الرجل في تأسيس دعائم الدولة وتغيير عقلية المجتمع العربي… هذه الصورة سرعان ما اختفت وعادت تلك التصورات التي رصدت لنا المرأة كجارية في القصور أو آلة للإنجاب والبيتوتة أو خادمة في البيوت أو سلعة في الأسواق، صور جردت المرأة من كينونتها وإنسانيتها لتصبح شيئاً ضمن الأشياء التي تلبي حاجة الرجل، أو سلعة تروج حركية أرباح السوق أو أداة يتوصل بها لأغراض معينة، صورة تنتقص من المرأة وتقلل من قدراتها، وتجعلها تحت الرقابة والحجر والوصاية.
لكن بعد انفتاح العالم العربي الإسلامي على الفكر الحداثي الغربي أو هجوم هذا الأخير على البلاد العربية، وتزامناً مع مراحل الانتقال التي تعيشها البلاد العربية، والتنديد الشامل بمرارة الواقع العربي على كل المستويات، وتأخره عن الركب الحضاري، تعالت صيحات التنديد بوضعية المرأة وتردي واقعها الذي يسوده التهميش، فوقعت قضية المرأة بين تيارين؛ أحدهما يلقي باللوم على الفكر الديني باعتباره سبباً في تأخير المرأة وتكريس دونيتها، وفي المقابل يدعوها للحاق بالنموذج الحداثي في نسخته الغربية، وتيار يلقي باللوم على الفكر الحداثي والعلماني وكل فكر يقترب من المرأة ويخوض في مسائلها، منصباً نفسه كناطق باسمها شارحاً ومفسراً لمسائلها بفهمه للدين لا بالدين نفسه، ملزماً لها بفهمه، مضيقاً عليها ما الله موسعه.
لا يمكن إنكار الحيف الذي تعرضت له المرأة، سواء في الفكر الذي صيرها آلة لتحقيق الربح، أو في الفقه الذي ضيق عليها الخناق، وحمل النصوص التي تناولت قضاياها ما لم تتحمله.
لكن تكريس هذه الصورة النمطية لمظلومية المرأة واجترارها بين الحين والحين، ووصفها باستمرار بالكائن المظلوم تاريخاً ونوعياً، قد لا يفي بالغرض المنوط بتحسين وضعية المرأة وإنصافها.
وتبعاً لذلك فإن الدعوة المتكررة لإصلاح وضعية المرأة، من الأجدر استبدالها بالدعوة إلى إشراك المرأة في الإصلاح المجتمعي والتغيير الكفيل بنصرة كل قضايا الأمة باعتبار تداخلها، بحيث لا يستقيم بناء مجتمع متماسك دون تقوية ركيزتيه الأساسيتين معاً، المرأة والرجل، فوظيفة المرأة منوطة بقيامها بمهامها التي تنسجم مع فطرتها جنباً إلى جنب الرجل.