أثارت تصريحات رئيس البرلمان التركي "إسماعيل قهرمان" حول العلمانية في الدستور التركي القادم الكثير من الجدل الداخلي والخارجي، وكالعادة فإن هناك من ينتظر مثل هذه الصراعات الجدلية التي يتم من خلالها مهاجمة حزب العدالة والتنمية وحكومته، بل ومهاجمة رئيس الجمهورية السيد رجب طيب أردوغان باعتباره مؤسس حزب العدالة والتنمية، ورئيساً له لأكثر من عشر سنوات، قبل استقالته منه لتولي منصب رئيس الجمهورية التركية بعد فوزه فيها في انتخابات 10/8/2014، ولكن وعند النظر إلى حقيقة التصريحات وما قدمه رئيس البرلمان من شروح وتفسيرات فإن موجة القلق سوف تزول، إلا إذا أراد البعض استثمارها في معارك جانبية أخرى!
ما قاله رئيس البرلمان التركي، إسماعيل قهرمان، يوم 25/4/2016 هو :"إن الدستور الجديد يجب أن يقوم على أساس ديني، وخال من العلمانية"، مشيرًا في الوقت ذاته إلى خلو الدستور الحالي من لفظ الجلالة "الله عزّ وجلّ" بالكامل، وأوضح قهرمان في كلمة له خلال مشاركته في مؤتمر "تركيا الجديدة والدستور الجديد"، أن "بعض الدول تضع في دستورها العبارات الدينية، ونحن دول مسلمة ومسجلين لدى منظمة التعاون الإسلامي، ونعد من أعضائها المؤسسين، كما أننا نوجد أيضًا في البنك الإسلامي للتنمية، لأجل ذلك ينبغي أن يكون الدستور الجديد متدينًا"، وأشار قهرمان إلى أن دستور ثلاث دول في العالم تذكر في دستورها إنها تقوم على العلمانية، وهي فرنسا وأيرلندا وتركيا، مبينًا أنه "لا تعريف للعلمانية، والكل يعرفها حسب رغبته الشخصية، لذلك يجب أن لا يتهرب دستورنا عن مسألة الدستور المتدين"، وفي كلمته شدّد قهرمان على ضرورة تلاحم الدولة والشعب مع بعضهما، قائلا:"يجب أن يكون الإنسان أولوية الدستور الجديد، وعلى الدولة أن تكون منظمة تخدم مواطنيها".
هذه التصريحات ليست هجوماً ولا رفضاً لمفهوم الدولة العلمانية، وإنما استفسار عن إصرار الدستور التركي على تضمن كلمة العلمانية في الدستاتير السابقة، وبالأخص دساتير الانقلابيين عام 1960 وعام 1982 أصرت على ذكر كلمة العلمانية في الدستور التركي، علما بأن معظم دول العالم الحديثة هي دول علمانية، ولكنها لا تذكر أنها دولة علمانية في دستورها، بل فيها إشارات كثيرة للجوانب الايمانية والدينية والروحية، ولو من باب الاشارة إلى هوية المجتمع الثقافية، فالكثير من الدول العلمانية لا تذكر في دستورها إنها دولة علمانية، فالقضية التي يثيرها رئيس البرلمان التركي هي: هل من الواجب علينا ان نذكر كلمة العلمانية في الدستور التركي، وهي كلمة خلافية في تعريفها ومفهومها في تركيا وفي العالم أجمع.
لم تذكر الدساتير الأولى للجمهورية التركية عند تأسيسها عام 1923 مبدأ العلمانية، واول ذكر للعلمانية في الدستور التركي كان عام 1937، والتفسير المغالي بتطبيق العلمانية بدأ في العقد الرابع من القرن العشرين أيضاً، ولم يكن التشدد والغلو المعادي للدين في السنوات الأولى من عمر الجمهورية، وهذا يعني أن مسألة العلمانية هي مسألة متحركة ومتغيرة في الحياة السياسية في تركيا، وبعد عام 1930 أخذت الحكومات التركية تتشدد في مظاهر معاداة الدين، فمعاداة الدين لم تكن نتيجة تيار فكري وسياسي أسقط نظام حكم سابق من أجل نظام حكم جديد، وإنما استغلال السلطة السياسية من قبل حزب الشعب الجمهوري لتطبيق تفسير لمبدأ العلماينة المستوردة من الغرب، حيث أخذ حزب الشعب الجمهوري يطبق المفهوم والتعريف والسلوك الفرنسي المتشدد في إقصاء الدين ومعاداته، بينما كان أول دستور تركي قد وضع في مواده مؤسسة تعنى بالشأن الديني، وهي رئاسة الشؤون الدينية، التي تعادل في الدول الإسلامية الأخرى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أو الإسلامية في الدول الأخرى.
إن التفسير المتشدد للعلمانية في عهد حكم حزب الشعب الجمهوري هو الذي وصم تركيا بهذا الوصم المعادي للدين، بينما الشعب التركي هو شعب مسلم بنسبة 99%، والتفسير المغالي بمعاداة الدين ليس هو التفسير الوحيد للعملانية في العالم أجمع، وبالدرجة الأولى في تركيا الحديثة، فأول حكومة بعد حكومة حزب الشعب الجمهوري كانت حكومة الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس وقد اتى بتفسير جديد للعلمانية بناءا على مطالب شعبية كبيرة، والتطبيق المتشدد للعلمانية في العصر الجمهوري الأول والذي حكم فيه حزب الشعب الجمهوري منفردا، قد أدى إلى إخراج حزب الشعب الجمهوري من حكم تركيا منفردا مرة أخرى إلى الآن وربما إلى الأبد، لأن التطبيق المتشدد للعلمانية او التطبيق الخاطىء قد أثار غضب الشعب التركي المسلم، وعندما تم تعديل الدستور التركي عام 1950 ودخلت تركيا العصر الثاني وفيه التعددية الحزبية السياسية، فاز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس، بسبب وعده بتخفيف الغلو العلماني القسري في تركيا، فضلاً عن جوانب أخرى، فكانت حركة الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس برفض المغالاة بالعلمانية المتشددة ضد الدين مؤشر على ان الشعب التركي يرفض العلمانية المتشددة، وهو ما سارت عليه كل الحكومات التركية بعد ذلك دون استثناء، وكان ذلك قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
وفي هذه المعركة التاريخية الأيديولوجية لا بد من الإشارة إلى ان مرحلة الانقلابات العسكرية في تركيا من عام 1960 ولغاية 1997 كانت من أسوأ مراحل الحكم في تركيا، ليس في الجانب السياسي وعدم الاستقرار فيها فقط، وإنما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي أيضاً، لأن المؤسسة العسكرية والجيش كانت تريد السير بتركيا باتجاه معاكس للتوجهات الحضارية للشعب التركي، وهو ما كانت الانتخابات البرلمانية والبلدية تؤكد على رفضه، فالانقلابات العسكرية السابقة كانت ضد الإرادة الشعبية التي ترفض الغلو العلماني، الذي كانت المؤسسة العسكرية تتذرع به للقيام بالانقلابات العسكرية وإسقاط الحكومات المنتخبة، ولكن الجيش اكتشف بعد اربعة انقلابات عسكرية أنه لا يستطيع ان يفرض العلمانية المعادية للدين بالقوة العسكرية، فأربعة انقلابات كافية لتقول للجيش التركي كفى، فالشعب التركي عاقل وراشد وديمقراطي ومؤمن، ولا يقبل العلمانية الشمولية كما لم يقبل الاشتراكية الشمولية، وإنما يقبل العلمانية في النظام السياسي، لكي يتساوى كافة المواطنين أمام القانون، وتكون وظيفة الدولة خدمة المواطنين.
وبالرغم من ان تصريحات رئيس البرلمان هي من باب الحوارت والنقاشات التي تجري بين النواب، فقد اعتبرتها الحكومة التركية تصريحات شخصية، فقد صرح الرئيس التركي أردوغان بنفسه بانها تمثل وجهة نظر رئيس البرلمان الخاصة، وكذلك أوضح رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في اجتماع زعماء حزب العدالة والتنمية في المقاطعات التركية:" أن الدستور الجديد الذي يعمل حزب العدالة والتنمية على تجهيزه يحتوي على مبادئ ذات صلة بالعلمانية"، وصرح نائب رئيس الوزراء التركي "نعمان كورتولمش":" بأن دعوة رئيس البرلمان "إسماعيل قهرمان" إلى دستور ديني، خال من العلمانية، تعد تعبيرا عن رأيه الشخصي"، أي انها لا تمثل رأي الحكومة التركية، ولا رأي حزب العدالة والتنمية أيضاً.
ولذلك فإن الضجة الاعلامية التي أثارتها المعارضة التركية على دعوة رئيس البرلمان التركي، إسماعيل قهرمان، إلى دستور جديد يقوم على أساس "ديني"، وخال من "العلمانية"، هي ضجة غير مبررة ، لأنها جعلت موقف رئيس البرلمان وكأنه موقف الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وهذا موقف غير صحيح، فانتقادات حزب الشعب الجمهوري في بيان له هذه المسألة هي تصريحات متسرعة، وكان ينبغي أن لا تتسرع بانتقاد رأي شخص على أنه رأي حزب أو حكومة حتى يصدر بيان رسمي بذلك، وفي كل الأحوال فإن تصرحات قهرمان الشخصية لم تكن تهدف إلى:" استخدام الدين كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية واستغلال الشعب"، كما جاء في بيان حزب الشعب الجمهوري، وكذلك كان غريبا أن يتسرع رئيس الحزب كمال قليجدار أوغلو، في سلسلة تغريدات نشرها على حسابه الشخصي بتويتر :" متهمًا حكومة حزب العدالة والتنمية بتجاهل هذا المبدأ (العلمانية) واستهداف السلام الاجتماعي للبلاد"، فهذا استغلال لتصريح شخصي لمهاجمة حكومة العدالة والتنمية، وهو استغلال خاطىء ومشبوه.
بينما جاء رأى رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجيلي، في بيان له، إن "فتح المواد الأربعة الأولى من الدستور للنقاش من قبل إسماعيل قهرمان المنتخب وفقًا للدستور نفسه، موقف عبر صائب"، داعيًا رئيس البرلمان إلى الاعتراف بالخطأ والتراجع عن تصريحاته"، وهذا موقف اكثر حكمة واتزاناً، بينما كانت تصريحات الرئيس المشارك في حزب الشعوب الديمقراطي "فيغان يوكسك داغ" أكثر التصريحات سوءاً إذ قالت:"إن رئيس البرلمان يتحدث عن دستور متديّن، وتُمثّل جميع هذه التأكيدات دعوة إلى تمييز قائم على أساس ديني"، واتهمت فيغان حكومات العدالة والتنمية:" بأنها تسعى إلى الهيمنة من خلال التركيز على الدين بشكل أكبر"، بل وادعت:" أن تركيا لم تشهد العلمانية إطلاقًا، لذلك فهي تتعطش لعلمانية تدافع عن الحريات"، بحسب تعبيرها.، فإذا كانت تركيا لم تشهد العلمانية التي تريدها حتى الآن، فعن أي علمانية تتحدث؟
إن ردود الأفعال المستعجلة من قبل المعارضة التركية تدل على تخبط المعارضة في ممارسة دورها السياسي، وتوجيه اتهاماتها للحكومة والحزب الحاكم على شيء لم يصدر عنهما هو دليل على أنهم يسعون لممارسة النقد فقط، قبل التوثق من الأمر، فكان عليها ان تكون انتقاداتها للسيد اسماعيل قهرمان فقط، حتى يثبت لها أن هذا الموقف هو موقف الحكومة أيضاً، وعلى فرض ان هذا الرأي هو رأي الحكومة أو الحزب الحاكم فلا بد من مناقشة مدى مصداقيته شعبياً، وما يمثله هذا الرأي عند الشعب التركي.
واما الحديث عن مبادىء أساسية قامت عليها الجمهورية التركية، فهذا يعطي الحق للشعب التركي المطالبة بالدستور الأول للجمهورية التركية، واعتبار كل التعديلات اللاحقة باطلة، وهذا ما لا يوافق عليه أنصار العلمانية انفسهم، لأن معظم التعديلات والقوانين التي أدخلت الشعب التركي بالعنت العلماني كانت بعد تأسيس الجمهورية بسنوات، وقبل عام 1950 في الغالب، وكانت بعد إقرار الدستور الأول والثاني بالتأكيد، بل كانت معظم التطبيقات القسرية للعلمانية والمعادية للدين هي من تطبيقات حكومات حزب الشعب الجمهوري فقط، وعدم قدرة حزب الشعب الجمهوري على الوصول إلى الحكومة منفرداً منذ عام 1950 دليل على أن رؤاه في تطبيق العلمانية المغالية في معاداة الدين لم تعد تمثل ثقلاً انتخابيا ولا سياسيا لدى الشعب التركي.
هذه التدوينة منشورة على أورينت نت للاطلاع علي التدوينة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.