الصراع الفكري بين ماكس فيبر وكارل ماركس

ويشير ماكس فيبر إلى أن حركة التاريخ لا يمكن فهمها إلا بدراسة "أنماط الهيمنة المتعاقبة" التي مارستها السلطات المختلفة، حيث قام بتقسيم السلطات إلى ثلاثة أنواع: السلطة التقليدية، والسلطة الروحية، والسلطة العقلانية الشرعية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/30 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/30 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

لم يكن كارل ماركس (1818 – 1883) يؤمن بتأثير الأفكار المجردة – بوصفها معطيات أولية – في المجتمعات البشرية؛ وجزم في كتابه (نقد نظرية الحق لدى هيغل) أن فهم دوافع الإنسان لا يتيسر إلا بربطها بالظروف الاقتصادية، ورفض نظريات الهيغليين الشباب في كتابه (أطروحات حول فيورباخ) لأنها اكتفت بتفسير العالم دون تقديم أطروحات عملية لتغييره.

ويفترض كارل ماركس مسارين مختلفين لفهم حركة التاريخ؛ أحدهما مسار تطور أحادي ذكره في كتاب (الأيدولوجيا الألمانية) يتتبع سيرورة مبدأ تقسيم العمل وأنماط الإنتاج في عصور العبودية والإقطاع والبرجوازية، والآخر مسار تطور تعددي ذكره في كتاب Gundrisse أو (الخطط) يتتبع مشاكل الملكية الخاصة في المجتمعات المختلفة.

بالمقابل؛ يصر ماكس فيبر (1864 – 1920) على أن دوافع الإنسان لا يمكن اختزالها بالعامل الاقتصادي بمنأى عن العقائد والقيم والتقاليد، وعارض في كتابه (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية) تفسير كارل ماركس لظاهرة الطبقات، وأكد أنها لم تنشأ من علاقات الملكية وأنماط الإنتاج وإنما تأسست في ظل اقتصاد السوق الحديث، يقول ماكس فيبر: "وحدها المادية التاريخية الساذجة من تفترض أن الأفكار هي انعكاس للظروف الاقتصادية".

ويشير ماكس فيبر إلى أن حركة التاريخ لا يمكن فهمها إلا بدراسة "أنماط الهيمنة المتعاقبة" التي مارستها السلطات المختلفة، حيث قام بتقسيم السلطات إلى ثلاثة أنواع: السلطة التقليدية، والسلطة الروحية، والسلطة العقلانية الشرعية.

يعتبر الدين ميدان صراع لا يمكن تجاهله في أطروحات الرجلين، فالدين لدى كارل ماركس هو "زفرة المضطهدين" ومظهر من مظاهر استلاب الإنسان وشكل من أشكال الأيدولوجيا التي تستخدمها السلطة للسيطرة على الناس.

ولم يتردد في وصفه بـ"المنتج الاجتماعي" الذي يتطور بتطور وعي المجتمع المحكوم بواقعه المادي، وبما أن الواقع هو من يصنع الوعي الإنساني ويشكل مفاهيمه في لحظة تاريخية محددة؛ يصبح الدين بهذا المفهوم مجرد "وعي مقلوب" كما يقول ماركس.

بينما أسس فيبر لتحليل عميق في علاقة الدين بالمجتمع – بطابع تاريخي محايد – توصل من خلاله إلى أهمية القيم الدينية في ظهور قيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية، واتخذت أبحاثه بخصوص علاقة الدين بالرأسمالية مسارين اثنين: أحدهما في بيان المساهمة الإيجابية للمسيحية – خصوصًا البروتستانتية – في ظهور الرأسمالية، والآخر: في الكشف عن العوائق التي أخرت ظهورها في مجتمعات الديانات الأخرى.

لكن ماكس فيبر يستدرك وينبه إلى أنه لا يسعى لاستبدال التفسير المادي المتحيز للتاريخ بتفسير مثالي؛ وأنه لا يرى الكالفينية علة لظهور الرأسمالية ولكنه يؤمن بالتأثير التفاعلي المتبادل بينهما، فلولا تعاليم العقيدة الكالفينية الداعية إلى العمل والكسب – كما يؤكد فيبر – لما تطورت الرأسمالية كمنظومة اقتصادية فعالة.

يقر كارل ماركس بأن الرأسمالية قد حققت من الإنتاجية والفعالية في مدة قصيرة مالم يتحقق للبشرية خلال مئة عام! لكنه يراها بمثابة مرحلة مؤقتة للانتقال نحو الإشتراكية، ويجادل بأن خطيئة الرأسمالية الكبرى – التي قد تعجل بزوالها – هي ترسيخها لثقافة الاستغلال من خلال التلاعب بـ"الفائض" الذي ينتجه العمال ويعاد توزيعه بشكل مجحف.

مساوئ الرأسمالية لا ينكرها ماكس فيبر لكنه يؤكد أن روحها تتميز بخاصيتين فريدتين: الأولى تتمثل في تحويل السعي نحو الثراء إلى ضرورة أخلاقية لا غنى عنها، وتتلخص الثانية بأن جوهر الرأسمالية هو العقلانية والحسابات، فسيادة أطر أخلاقية تحفيزية ملائمة لنمط الحياة العملية التي تهتم بعلاقة الوسائل بالغايات وعلاقة الادخار بالاستثمار؛ أوجد أرضًا خصبة لتطور النموذج الرأسمالي الذي يتميز بالتراكمية من جهة، وبتعزيز السلوك العقلاني المنظم للعمل من جهة أخرى، مما منح الرأسمالية "حيوية" تمكنها من تصحيح ذاتها.

من اللافت للانتباه أن التصور الذي يحمله كل من الرجلين للرأسمالية قد ألقى بظلاله على تشخيصهما لظاهرة "الاغتراب" التي يعاني منها الإنسان المعاصر؛ فهذا الإحساس العميق بالوحشة يربطه كارل ماركس بالأوضاع الاقتصادية التي نتجت عن الثورة الصناعية، إذ يشكل عجز العامل عن امتلاك ما ينتجه من السلع؛ بالإضافة إلى استئثار صاحب رأس المال بالفائض المتراكم من الأرباح؛ السبب الرئيسي لتعاظم إحساسه بالعجز واللاجدوى.

بينما أطلق عليه ماكس فيبر مسمى "القفص الحديدي" وربطه بالبيروقراطية والمبالغة في تقسيم العمل، حيث أصبح الهدف من الحياة يتلخص بالانشغال لتحقيق النجاح المادي، وتحول الناس إلى أسرى للنظام وفقدوا القدرة على التحكم بحياتهم، فتحولوا إلى مجرد آلات لجمع المزيد من الأموال.

صراع الأفكار الذي أوردنا بعض ملامحه أعلاه بين هذين المفكرين الألمانيين يشبه في منطلقاته النظرية صراعات المفكرين في مجتمعاتنا، والتي غالبا ما تتناول مجالات تتعلق بقلق الهوية ومعنى الوجود ومعضلة التنمية وأزمة السلطة، وهي موضوعات تجسد بمجملها صراع الإنسان مع ذاته لإعادة تعريف هويته وتحديد معنى وجوده، صراع خاضه مثقفوا أوروبا قبلنا في عصر التنوير والنهضة الصناعية، ويخوضه مثقفوا العالم العربي والإسلامي حاليا ولكن في الزمن الصعب! زمن العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد