بدأ الحديث عن نظرة الولايات المتحدة تجاه ما يُعرف بـ"الإسلام السياسي "منذ اندلاع ما يُعرف أيضاً بـ"الربيع العربي"، تلك الثورة لم تصطبغ في أي بلد من البلدان بمسحة دينية، ولم تكن القوى والأفكار الإسلامية قد مارست أي دور في هذه الاحتجاجات، ولكنها كانت المستفيد الرئيس منها، خلق هذا النجاح الباهر لـ"الإسلام السياسي" مخاوف في أوساط الليبراليين والعلمانيين والأقليات الدينية، باعتباره، حسب رأيهم، منافياً تماماً للديمقراطية رغم زعم الإسلاميين عكس ذلك.
بادئ ذي بدء، فإن موقف الولايات المتحدة من "الإسلام السياسي" لا يمكن اختزاله بكلمة ولا بتعبير، إنه يختلف في كثير من الأحيان بمرور الزمن، وأيضاً من بلد عربي إلى آخر، أيضاً يختلف الموقف تجاه حزب إسلامي معين من فرد إلى آخر، وهذا ما يولّد سياسات غريبة وانفصامية عجيبة.
خلال الحرب الباردة، حاورت الولايات المتحدة "الإخوان"، مفترضة أنها يمكن أن تكون شريكاً في الصراع ضد الشيوعية وأفكارها الإلحادية، ولكن لا يمكن اعتباره تحالفاً.
في مصر، عقد أحد مسؤولي السفارة الأميركية اجتماعاً مع مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر حسن البنا؛ لبحث المساعي المشتركة للقضاء على "الشيوعية"، ولكن الاختلاف في وجهات النظر بين الطرفين كان كبيراً، حسب ما جاء في كتاب "هل التعايش بين الإخوة الإسلامية وأميركا ممكن؟" للكاتب خليل العناني.
بدأ الحوار بالتراجع منذ نكسة ١٩٦٧ وانحسار قوة عبدالناصر، ثم عاد بقوة في أزمة الرهائن الأميركيين في إيران، حسب مسؤول جماعة الإخوان عصام العريان؛ إذ طلبت الولايات المتحدة من المرشد العام عمر التلمساني التدخل لدى الخميني لحل الأزمة، وافقت الجماعة، ولكن التلمساني عاد من طهران خائباً بعد رفض الخميني مقابلته. أيضاً لا يمكن اختزال فترة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، حين دفعت الولايات المتحدة لاستخدام الإسلام لمحاربة الجيش الأحمر في الفترة نفسها.
وقد ذكر ذلك الكاتب الفرنسي جيل كيبل في كتابه "الجهاد"، عن شبكات ومؤسسات وشخصيات من حركة الإخوان قد أدت دوراً مركزياً في العمليات التعبوية واللوجستية للجهاد في أفغانستان.
عندما انتهت الحرب الباردة، أوقفت الولايات المتحدة الحوار معهم لعدة أسباب، منها الثورة الخمينية، ومواقف الإسلاميين من مواضيع مثل التوافق بين الديمقراطية والإسلام والحرية الدينية وحقوق المرأة وإسرائيل، وأيضاً لجهة طلب الدول الديكتاتورية -التي رضخت لإملاءات واشنطن بالتطبيع مع إسرائيل بعد انتهاء "عاصفة الصحراء" عام ١٩٩١ أو ترسيخ السلام على الحدود، وأيضاً لجهة القبول بـ"النظام العالمي الجديد" بقيادة الولايات المتحدة- بضرورة وقف التحاور مع الإسلاميين.
هذا ما شهدته الجزائر على سبيل المثال، وقد أدلى جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية، بتصريح بعد إلغاء نتائج الانتخابات، التي نجح فيها الإسلاميون، يقول فيه: "بشكل عام، عندما تدعم الديمقراطية يجب أن تعلم جيداً ما سوف تقدمه لك تلك الديمقراطية… إذا كانت ستعطيك نظاماً إسلامياً متطرفاً، فإنه عليك أن تتعايش معه. لم نفعل ذلك في الجزائر؛ لأننا أحسسنا بأن آراء تلك الجماعة الإسلامية المتطرفة تناقض تماماً ما نؤمن به وما نسانده من مبادئ". وبالمقابل، فقد دعم هذا التوجه كثير من المحللين الأميركيين، أمثال إدوارد غيريغيان، (عُين لاحقاً مساعد وزير الخارجية) بقوله: "إننا نؤمن بمبدأ شخص واحد، صوت واحد، ولا نؤمن بمبدأ شخص واحد، صوت واحد مرة واحدة"، غامزاً إلى ديكتاتورية "الإسلام السياسي"، إن وصل إلى الحكم والانقلاب على الديمقراطية.
رغم ذلك، أثبتت الجماعة حينها حضوراً جيداً في الفضاء السياسي في كل من الأردن ومصر وتركيا.
يقول الدكتور أحمد الموصللي، عن مرحلة بعد الحرب الباردة: "لقد حلت الحركات الإسلامية، وفي بعض الأحيان العالم الإسلامي والإسلام كله، محل الشيوعية كعدوٍ لدود للغرب".
تُعتبر أحداث سبتمبر ٢٠١١ تاريخاً مفصلياً أيضاً، ومن نتائجها إزالة مختلف الاتصالات بين الولايات المتحدة والجماعات الإسلامية، رغم شجب الأخيرة وإدانة تلك الهجمات. أدلت كونداليزا رايس من القاهرة بتصريح: "لم تكن لنا علاقة بجماعة الإخوان المسلمين ولن تكون"، حاولت جماعة الإخوان المسلمين استئناف حوارها مع إدارة بوش من خلال مبادرة سموها "إعادة تعريف الغرب بالإخوان المسلمين"؛ لتخوفهم من أن يتم تصنيفهم كمنظمة إرهابية، وقد كتب مسؤول الجماعة مقالاً بصحيفة "الغارديان" تحت عنوان "لا تخافونا"، يدعم فيه فكرة إيمان الحركة بالديمقراطية وعدم رغبتها باحتكار السلطة. ردت إدارة واشنطن سريعاً بدعم رجلها القوي محمد دحلان بعد فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية عام 2006؛ لتقنع الجميع بأن ادعاءها الدفاع عن الديمقراطية غير جدي واستنسابي، رغم ذلك، عملت الولايات المتحدة على تشجيع الإخوان المسلمين في سوريا والعراق وتركيا، وهذا يدل على أن سياسة واشنطن منوط بمصالحها حسب كل بلد.
في أواخر 2006 أظهرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن بعض أعضاء إدارة بوش قد بحثوا خيارات الإطاحة ببشار الأسد، بما في ذلك الاستماع إلى وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين، الذين شكلوا بدعمها قوة مناهضة للنفوذ الإيراني.
في العراق، ساندت واشنطن انضمام الحزب الإسلامي العراقي إلى الحكومة العراقية التي تشكلت بعد الإطاحة بحكم صدام حسين.
خلال فترة بوش، انقسم المتابعون والمحللون إلى قسمين: التوفيقيين والصداميين، أما التوفيقيون، ومنهم الكاتب ليكن بروك، فيقول: "الجهاديون يبغضون الإخوان المسلمين الذين يرفضون الجهاد ويؤمنون بالديمقراطية. تلك المواقف تجعلهم أكثر اعتدالاً، وهذا ما تبحث عنه الولايات المتحدة وسط حلفائها في العالم الإسلامي".
أما الصداميون، ومنهم المرشح الرئاسي ميت رومني، فيقول: "القضية ليست محصورة بشخص بن لادن؛ بل تتعلق بحزب الله وحماس والقاعدة والإخوان المسلمين. إنهم مجاهدون يسعون للإطاحة بالحكومات الإسلامية المعتدلة واستبدالها بنظام الخلافة الإسلامية".
وقد دعمت الأنظمة العربية فكر الصداميين؛ إذ عملت جاهدة على وصم هذه الحركات الإسلامية بالعنف والإرهاب، وأيضاً اتهمتها بأنها تتلقى دعماً إيرانياً لإبقائها في سلة أعداء الولايات المتحدة، ومنهم من حاجج بفكرة أن "الإسلام السياسي" سيُقَوِّض السلام العربي الإسرائيلي.
كشفت "ويكيليكس" عن برقية صادرة من السفارة الأميركية في عمان، بعد انتهاء ولاية دبليو بوش: "لقد بدأت السفارة هنا التحرك بهدوء وحذر لإعادة اتصالها بجماعة الإخوان المسلمين واستعادة العلاقة معها، التي فترت بعد أحداث سبتمبر 2001". 09AMMAN2516
وصل أوباما إلى الحكم متعهداً بتجديد علاقات بلاده بدول العالم، جاء في خطابه بالقاهرة: "أميركا تحترم حقوق كل الأصوات السلمية الملتزمة بالقانون، حتى لو لم نتفق معها، ونرحب بكل الحكومات المنتخبة والمسالمة، شريطة أن تحكم شعوبها باحترام." وقد كشفت "ويكيليكس" عن برقيات كثيرة تدل على عمل السفارات الأميركية بفتح قنوات اتصال مع الحركات الإسلامية، خاصة في دول الربيع العربي، وأيضاً صرحت وزيرة الخارجية حينها كلينتون: "من مصلحة الولايات المتحدة التعامل مع كل الأحزاب الملتزمة بالسلم والبعد عن العنف". أثناء ذلك، عقد جون كيري وجيفري فيلتمان عدة لقاءات مع مسؤولين من حركة الإخوان المسلمين، وقام أعضاء من الحركة بزيارة واشنطن أيضاً.
لا بد من الإشارة هنا، أثناء انتخابات مصر الرئاسية 2012، كتب مراسل نيويورك تايمز: "صُناع القرار الأميركيون أصبحوا ينظرون إلى جماعة الإخوان كحليف لا غنى عنه أمام الجماعات الأخرى من السلفيين"، أما بعد الانقلاب الذي أطاح بحكم الرئيس المصري مرسي، فقد وقفت الولايات المتحدة منزعجة، رغم أن كثيراً من المحللين، منهم إريك تراقر من معهد واشنطن، عبروا عن قلقهم من محاولة الإخوان المسلمين الاستئثار بالسلطة وتقويض العمل الديمقراطي في مصر. دفعت أولوية "الحرب على الإرهاب" واشنطن للتعامل مع الرئيس السيسي، كمصلحة استراتيجية ضرورية، خاصة بعد تفاقم الوضع في سيناء؛ لتكرس سياستها القديمة وفق مصالحها في المنطقة، رغم مطالبتها المتكررة بضرورة حماية الديمقراطية وحرية الرأي والصحافة وحقوق الإنسان.
في المقابل، ترى الولايات المتحدة في جماعة الإخوان اليوم، خير بديل في سوريا، يمثل "الإسلام السياسي" المعتدل، من خلاله يمكن القضاء على حلم المتشددين بوراثة دمشق من براثن الأسد.
جميل أن أستحضر هنا ما تفضل به الدكتور فواز جرجس في كتابه "أميركا والإسلام السياسي"، بالقول: "عدائية الولايات المتحدة حيال الإسلاموية سببها مناهضة الحركات الإسلامية للمصالح الأميركية الاستراتيجية، وليس في المسألة أي عداء ثقافي"، ويكمل: "إن العداء الثقافي الخفي للفكر الإسلامي يؤثر بشكل أو بآخر على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة"، ولهذا السبب نرى صعوبة في دراسة تبرير كل رئيس أميركي لانتهاجه سياسة تتناقض مع ما كان يتبعه سلفه في خدمة نفس المصالح، وهنا تبرز معضلة فرز المواقف تجاه "الإسلام السياسي" عمودياً بين الجمهوريين والديمقراطيين.
وفي النهاية، نجد أن الوعي الأميركي الجديد بعدم القدرة على صياغة الأحداث عملياً كان السبب الرئيس وراء سلوكها المتمثل في "احترام الشعوب في تقرير مصيرها"، وإلا لاختزلنا موقف الولايات المتحدة من "الإسلام السياسي" في جملة، وهذا مستحيل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.