منذ فجر التاريخ حَظِيَّ العلماء بشتى مشاربهم واتجاهاتهم الفكرية والكلامية والفنية والعلمية، بمكانة خاصة لدى طبقات المجتمع حسب الدافع وراء التقرب والسماع منهم، ولم يكن من بد لأي واحد من هؤلاء أن يصل إلى مرتبة العالِمية بمحض الصدفة، بل عن طريق جلوسه مئات الأيام في ذروة حرها، وسهر الليالي في عز قرها، للاغتراف من معارف كبار العلماء -مع شظف العيش وقلة الزاد- ويجتاز آخر الأمر امتحانًا نهائيًا يُسأل فيه عن مسائل لغوية وتفسيرية وأدبية وعلمية وفقهية عديدة؛ ليتمكن أخر ذلك من الحصول على شهادة الإجازة (والتي تعني أن شيخه يجيز له الرواية عنه، والتحدث في العلوم المكتسبة).
ولقد كانت مجالس هؤلاء العلماء يشد لها الرحال وتقطع لها أكباد الإبل لغاية النهل من معارفهم وما اكتسبوه من التحصيل والرأي، بل إن البعض قد تكون رحلته مبنية على سؤال واحد أو بضعة أسئلة.
كالرواية التي بعث المغاربة بها إلى إمام مذهبهم بالمدينة، والأدلة في ذلك مستفيضة لكل مفتش عن الأمثلة…
ومع وصول ثلة من الأدباء والفقهاء والمفسرين والمحدثين شأوا كبيرا في المكانة العلمية والاجتماعية إلى حد قربهم من السلطة، إلا أن الكثير منهم كانت تعرض عليه المسائل والنوازل فلا يستطيع لها ردًا، ولا يجد لها جوابًا شافيًا كافيًا للسائلين مخافةَ التقول في الدّين بما لا حجة لهم به من جهة، ومخافة أن ينقلوا الخطأ الذي هو محض رأي خاص، لا يعدوا أن يكون كلامًا عاديًا إلى المستجوبين ومن ثم إلى السواد؛ فتبنى عليه أحكام وقضايا هم في غنى عن تحمل أوزارها.
إلا أن واقع الشواهد اليوم: -بغض النظر عن طابعها الأكاديمي الذي يتوج بشهادة الدكتوراة كحد أقصى-. قد عرف في الآونة الأخيرة طفرة كبيرة جعلت كل من هب ودب على اثنين أو أربع، يملأ سيرته الذاتية بعشرات الشواهد في شتى الفنون والعلوم: فله في تاريخ الأدب، والشعوب، والطب، والعلوم، وفي علم الأجناس، والكونيات، وفي الجيولوجيا والبيولوجيا، وفي علم النفس والرياضة، وفي الاقتصاد والسياسة، وفي الرواية والدراية، وفي الاجتماع والجنس، وفي محاربة الرشوة والإقلاع عن التدخين، وفي المصالحة وحل المشاكل، وفي المعاشرة الحميمية والأوضاع الجنسية، وفي التحليل السياسي وسوق الأسهم الاقتصادي، وفي القيم والتقييم حسب الوضعيات والأحوال، وهلم جرا في كل فن من الفنون أو علم من العلوم الذي حاز منه شرف الأسس والقواعد والفروع والفرائض… ورغم علمه الواسع وسعة عقله الشاسع، تراه يتنافخ كبرًا على الناس وهو يمشي بطرًا في طرقهم وأنديتهم.
أحُق له ذلك؟؟؟ كيف لا وهو الفيلسوف والأديب، والمتكلم والمتصوف، والطبيب بعلل الروح والفقيه بأمراض الجسد، واللغوي والأصولي، والفيزيائي والكيميائي، والمؤرخ والشاعر، والمنجم والمفسر، شمس الأنوار وبحر الزمان والعارف بما سيكون أو صار في خبر كان.
إن الإعلان عن الدورات التكوينية في ساعات أو أيام معدودات قد تنافست على تنظيمها مجموعة من المؤسسات والمراكز، قصدهم في ذلك رفع السيولة المالية لأرصدتهم الشخصية، وهو أمر مشروع ما دام التسويق لمثل هذه التدريبات مربح وناجح.
ولا ضير في أن يتقدم المتتبع أو الباحث لمثل هذه الدورات التي على ضيق جلساتها لا تخلو من المتعة الفكرية والفائدة العلمية،
لكن أن ينبري أفراد لا يتوفرون على مؤهل أكاديمي جد متقدم، ولم يكتسبوا مؤهلات لغوية وفكرية وتواصلية وتحليلية… فتراهم يتهافتون على هذه الدورات ويسارعون في تجميع شواهدها السريعة، ومن ثم يتسلقون المنابر والكراسي والنوافذ الإعلامية والتواصلية وينشئون لهم صفحات أو قنوات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامي؛ ولا يرعوون في خلق ألقاب زائفة لأنفسهم: كالمدرب الكبير، والمعلم العارف، والخبير في التنمية البشرية، والمدرب الدولي في البرمجة اللغوية، والمحاضر في التنمية الذاتية… وترى فئاما وأناسي كثيرة تقيم لأجلهم الدنيا ولا تقعدها؛ فاعلم أنها هزلت.
إن العِلم النافع الذي يمكث في الأرض والذي ينتفع به الناس، لن يأتي عن طريق التطبيقات التي غدت سمات التكنولوجيا الحديثة ولا عن طريق دورة تدريبية في غضون سويعات؛ بل عن طريق البحث العلمي وسهر الليالي، والتفكير العميق بعد الجهد المضني في التنقيب والتنخيل في الاتجاهات الفكرية والفلسفية والعلمية…
ولعل هذا الكلام قد يحدث إرباكا نفسيا وخللا في آليات تفكير البعض، فتراه مسارعا بالقول الذي شاع بينهم: رأيك فيّ لا يدل عليّ، أو إن الصورة الذهنية التي تحملها عني لا تمثل حقيقتي الذاتية. ولعمري أن ذلك لشاهد على الفرق الشاسع والبون الواسع بين العِلم الذي تُجنى ثماره بعد سنوات من التحصيل، وبين أفكار منقولة وقصص مكررة من بُنيّات شواهد سريعة التحضير.
والقدْر بين الفريقين لا يقاس بالباع ولا بالذراع، بل ما بين المشرقين أو يكون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.