استناداً إلى الفكر الغربي المعاصر، فإن التّوحش هو حالة الطبيعة البشرية الأولى حيث "الإنسان ذئب لإخيه الإنسان " و"حرب الكل ضد الكل" كما عبّر عن ذلك الفيلسوف البريطاني "توماس هوبز".
وحتى تنتقل البشرية من هذه الحالة المتوحشة إلى حالة تتسم بالتعايش والتمدّن حدثت مقايضة مع الإنسان، وذلك بأن يتنازل عن القليل من حريته مقابل أن يعيش في أمن وسلام، إذْ تقوم الدولة، الكيان المؤسس، بتوفير الأمن للجماعة الإنسانية التي تقطنها، وبهذا حدث التوافق بين النّاس، وتعايشوا في جو يسوده الأمن والاستقرار.
عندما حدث التوافق بين البشرية في التعايش.. التعايش الذي فرضته ضرورات ومقتضيات البقاء، كما عرفنامن قبل، لأنّها، أي البشرية، أدركت بأن مآل الصّراع في النِّهاية سيكون حتماً الفناء، انتقل الصّراع، بصورة أو بأخرى، من حالة الفرد ضد فرد آخر إلى حالة الجماعة ضد جماعة أخرى، أو بعبارة أخرى، صراع دولة ضد أخرى، الصراع الذي يمليه، كما يخبرنا التّاريخ وتدل أحداثه، حب السيطرة والهيمنة، ناهيك عن الاختلاف في الدين والعرق، والبحث عن موارد وثروات جديدة حتّى يزداد الغازي قوةً والمغزو ضعفاً.
نتيجة لهذا الوضع، فإن البشرية وقفت أمام نفس الاختبار الأول، فالصراع بين الدول لا يقل فداحة عن الصراع بين الأفراد، بل يزيد من حجم الدمار والقتل والمعاناة، بعد أخذ ورد، اهتدى العقل الغربي مرة أخرى إلى التطبيق الهوبزي الذي حرم كل فرد من جزء من حرياته، لكي يوفر له حداً أدنى من الأمان، إذْ قام بنقله إلى السّياق الدولي، أي أن كل دولة تقبل من تلقاء نفسها فقدان بعض السيادة، لكي تحترم الالتزامات الدولية من اتفاقات وقوانين ومواثيق، وبذلك يتحقق السلم بين الدول.
تبلورت هذه الأفكار نتيجة حرب الثلاثين سنة ( 1616- 1648) التي مزّقت أوروبا، وللعلم فإنّها حرب ألمانية سرعان ما امتدّ لهيبها إلى كامل أوروبا، كما أنّها حرب سياسية اتخذت أبعاداً دينية فيما بعد، إذْ تكللت هذه الحرب في النّهاية بعقد معاهدة صلح " وستفاليا " سنة 1648 التي تمّ بموجبها إنهاء الصّراع الدّموي، وبناء تصورات جديدة حول العلاقات بين الدول على شكل مواثيق والتزامات جديدة.
معنى هذا الكلام أن التقليل من التّوحش الإنساني سواء الفردي أو الجماعي اعتمد نفس العلاج، العلاج الذي بمقتضاه يتنازل الفرد أو الدولة عن جزء من حقوقهما ( الحرية / السيادة ) من أجل الصّالح العام، وإن كان في الأولى لصالح الجماعة الداخلية، فإنّ الثّانية لأجل الجماعة العالمية.
والسؤال الذي يطرح هل عاد العرب إلى حالة التّوحش؟ والتّوحش هنا، كما يبدو، ضد الذّات.
مفهوم التّوحش ضد الذّات:
يحدد المفكر الفرنسي " برتران بادي " في كتابه " عالم بلا سيادة " سلوك الدولة المتوحش ضد ذاتها، والسبب الرئيسي المرجو من ذلك، حيث يحدده في عبارة جامعة مانعة بقوله: " تقوم ( أي الدولة ) بافتراس ذاتها وتحطم ثرواتها الخاصة، ولو من أجل أن تتمكن من الاستمرار في البقاء ".
ربما يكون المقصود ببقاء الدولة هنا هو بقاء السّلطة التي تحتكر الدولة، وتُختصر هذه الأخيرة في السّلطة الحاكمة، ويتضح هذا المقصود أكثر في الأنظمة الديكتاتورية، التي تجعل من الدول مزارع خاصة لا أثر فيها للقوانين والدساتير، لذلك، نجد أن هذا الوصف يصدق على حال العرب اليوم، فسلوك بعض الدول يتسم بالتوحش حيث الإفراط في استعمال العنف ضد الذات، مما أدى إلى قتلٍ وتشريدٍ، وإلى محو مناطق من الوجود، وتحطيم هياكل وبنى تحتية للدولة، وما يؤسف له حقاً هو دخول بعض الجماعات على هذا الخط مما زاد من حجم معاناة النّاس وفداحة الدمار.
توحش دول وجماعات:
يعيش العالم العربي توحشاً ليس له نظير في حياة العرب، فمظاهر القتل والدم والخراب عناوين تتقاسمها كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا.. والمنطقة مهددة بمخططات التقسيم وبمشاريع التجزئة، ذلك أنّه عندما تتنافر القلوب وتتحجر العقول فليس هناك من دواء إلا الانفصال.
لقد كان الربيع العربي فرصةً حقيقيةً للعرب من أجل اللحاق بالرّكب ومواكبة العصر، وذلك ببناءِ دولٍ قويةٍ ومواطن مسؤول.. دول الحق والعدل والقانون، إلا أن أنانية الحاكم وتضخم أناه " أنا وبعدي الطوفان " أو " أنا أو أحرق البلد " قادت الأوطان إلى الخراب والدمار، وقادت الشعوب إلى القتل والتشريد واللجوء، فكانت النّتيجة في الأخير التّوحش بأبشع صوره.
نعم، توحش بأبشع صوره وأشكاله، وإلا كيف تفسر ما يحدث في سوريا، رئيس دولة يستنفر جيشه وقواته الحربية، ويقصف بالكيماوي والبراميل المتفجرة، ويستدعي حلفاءه من كل حدب وصوب، إيران روسيا وحزب الله، ليس من أجل تحرير الأرض والدفاع عن الشعب وثرواته، بل من أجل الدفاع عنه حتى يبقى حاكماً متمتعاً بكرسي الرئاسة الوثير.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام بإشعال حرب طائفية في المنطقة حيث أصبح الولاء للطائفة أولى من الولاء للوطن، وأصبح الاصطفاف في المنطقة طائفياً بامتياز " الشيعة/ السنة ".
كما أنّه هدد بأنّ الحريق السوري سيمتد إلى العالم كله، وها هو الحريق يشتعل في عواصم كبرى من العالم، والعنف يجتاح باريس وأسطنبول وأنقرة وبروكسل ولاهور..إلخ.
أما العناوين البارزة في كل من اليمن والعراق وليبيا فلا تختلف كثيراً عن سوريا، فهناك الصّراع على السلطة واللوثة الطائفية والقبلية، وهناك الحوثي وعلى عبد الله صالح وداعش والحشد الشّعبي والقاعدة وحفتر..إلخ.
العالم العربي إذن، يعيش تحت وقع توحش الدولة من جهة، وتوحش الجماعات المتطرفة من جهة أخرى، وهو توحش للأسف ضد الذات، من أجل أن يبقى فلان أو عائلة أو جماعة في الحكم، ومن أجل العبث بالمنطقة وتفكيك جغرافيتها عن طريق جماعات تتدّثر بالإسلام، وتدّعي مقاومة مشاريع الغرب، وهي في الحقيقة بعيدة عن الأول، وأداة بيد الثاني ( الغرب ).
ومن ثمّ، فإن توحش بشار الأسد أو علي عبد الله صالح أو غيرهما هو توحش سلطة تقاوم التغيير، حتى ولو أدى توحشّها إلى هدم كيان دول، وتحطم ثرواتها، المهم الاستمرار والبقاء في سدة الحكم.
في حين أن توحش الجماعات المتطرفة هو توحش أدوات أو بيادق لإبقاء المنطقة ساحة لعبث الأقوياء ولعبهم.
إذن، ما يجمع توحش الأول والثّاني هو مقاومة التغيير والرغبة في البقاء، حتى ولو كان الثّمن، كما قلنا سابقاً، تدمير أوطان وتفكيكها، وقتل شعوب وتشريدها.
في التحليل الأخير أن عودة التّوحش هو العودة إلى الحالة الطبيعية الأولى حيث لا مكان فيها لمظاهر التحضّر والتطور والنِّظام، ولا أثر لوجود القوانين والدساتير والشرائع..إلخ.
الشريعة التي تنتصر في النِّهاية هي شريعة الغاب والفوضى والبقاء للأقوى، وبهذا تسقط الدولة، ومعها يسقط الإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.