في سياق المواضيع المعروضة وسبل مناقشتها، يأتي الاختلاف ليملأ فراغين أساسين هما: الاختلاف في طرح المواضيع، والاختلاف في معالجتها. فلكلّ شخص أسلوبٌ خاص في رواية الخبر، يتدرّج خلاله بمكونات الموضوع ليلامس الأطراف التي يجدها مهمة بالنسبة له، ولتلتقي نقاط خبره مع مستوى تطلعاته الي الموضوع عامة.
بعد ذلك يأتي دور المعالجة، الذي غالباً ما يتناسب مع طريقة الطرح، ليتعارض بين الأشخاص رغم تقارب طروحاتهم. فلكلّ فرد نظريته الخاصة في ما يتعلّق بنقاط الموضوع الأساسية المختلفة استناداً للأدلة والبراهين وصولاً لمعالجة المعضلة. لكن متى يتحوّل الاختلاف في المعالجة الى نوعٍ من التخلّف؟
في الواقع، التخلّف مصطلح طبّي يعني الحالة غير السويَّة من النموّ العقلي والاجتماعي، حيث يقلّ ذكاء الشخص المتخلّف عن المستوى المتوسط، وبالتالي يبهت أداؤه للوظائف الاجتماعية مقارنةً بالأسوياء في سنه. المتخلّف هو من استند في طرح موضوعه ومعالجته إلى براهين وأدلة سطحية، غير موجودة ربما، مما يُعطيه صفة قليل الذكاء، حيث إنّ نظريته برمّتها تفتقر للمنطق.
ومثال على ذلك، مشكلة النفايات التي يعاني منها لبنان منذ اكثر من 10 شهور، حيث تقف الدولة عاجزةً تماماً عن رفع القمامة من الطرقات وإيجاد حلول سريعة تجنّب البلاد كارثة بيئية وشيكة.
في طرح معضلة النفايات عدة أطراف، يستند كلّ منها لمجموعة من النظريات حول مسبباتها وسبل معالجتها. الاختلاف هنا محصور، رغم كبره، بما اذا كان الحل: بترحيل النفايات، طمرها أو فرزها. والعوائق تتلخّص بالشركات التي ستُلزّم رفع النفايات، ولا ننسى المحسوبيات السياسية، ومدى السرعة في إيجاد حل قبل تفاقم الوضع الصحي.
هذا الوضع الذي بات يهدّد بأمراض، خصوصاً بعد اختلاط أطنان النفايات بمياه الأمطار، وبالتالي تغلغلها للمياه الجوفية التي ينهل منها إنسان، وحيوان ونبات. لكن هل يختلف عاقلان حول حجم المشكلة وضرورة البدء بحلّها؟ للأسف نعم، فبعض المواطنين يُصرّون على الانفصال عن الواقع المرير بسبب ارتباطهم بوظائف تحكمهم بغضّ البصر عن حجم مشكلة نفايات لبنان. فتراهم يتهافتون لتكذيب الأخبار الإعلامية عن تفشّي أمراض جلدية، مشاكل تنفسية، ومضار سرطانية على الشعب اللبناني.
ولعلّ آخر إبداعات التخلّف، إنكار خبر تكاثر البعوض، المتواجد بأعداد كبيرة في فترة غير اعتيادية من السنة، في المناطق التي تتكدّس قربها أطنان القمامة. هذا هو تماماً تخلّف الاختلاف في طرح المواضيع ومعالجتها. فلا متّزن يمكنه تجاهل مشكلة واضحة كأزمة نفايات لبنان، ولن يُسعف التذاكي صاحبه بعدم استنشاق روائحها النتنة في بيروت وضواحيها.
وللأمانة، لا بعوض في عدة مناطق من لبنان، لكنّه موجود قرب منطقة الناعمة، وفي الفنار، قرب المرفأ وغيرها من مناطق ضواحي بيروت. لم تصل مشكلة النفايات لتطال كل مواطن وتغطي مساحة لبنان كاملة، بيد أنّها تهدّد سكان العاصمة وضواحيها بالهواء الملوث الذي لا يمكن استنشاقه دون الإحساس بالغثيان، بالمطر الذي يروي المزروعات والدواجن ويتغلغل ليلوّث آبار البلاد، بالطفح الجلدي الذي يصيب الصغار والأمراض الرئوية والأوبئة المنتشرة بسبب البعوض والحشرات التي ساهم في تفشّيها، القمامة المتكدسة منذ ما يقارب العام.
ولنأخذ مثلاً آخر، وهو تردّي الأوضاع الأمنية وعدم احترام القوانين، في بعض المناطق اللبنانية تحديداً. وقد تجلّى ذلك بوضوح في: عمليات الخطف المتكررة من أشخاص معروفين مقابل فدية، "دون رادع"، السرقة والقتل عمداً أمام الكاميرات في وضح النهار في أكثر من منطقة، التعدّي على الحرومات وغيرها في مسلسل الفلتان الأمني.
قد يكون للبعض رأي في مسببات تلك المشاكل، وميل لإلقاء اللوم على الفلتان الأمني في العالم ككلّ. لكن أن يصل الأمر الى تبرير الخطف، والقتل، ومباركة الترهيب، وتشجيع المخلّين عبر اختلاق المبررات الوقحة لتشريع انتهاكاتهم اللاإنسانية، فذلك قمة التخلّف. ألا يُعتبر ذلك تأكيداً على الخنوع لتجاهل قضايا محقة، قد تهدّد قبل الجميع صاحبها، لتُظهره دائماً بأسخف المواقف وأغربها؟
الاختلاف أمر طبيعي بين كل الكائنات، وهو الذي يُعطي الحياة قيمة وجمالاً وتميّزاً. فما أحلى أن نتلاقى لنناقش اختلافاتنا، بعيداً عن التبعية والعبودية التي تقودنا الى التخلّف عن ركب الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.