خلال فترة الجامعة، اخترت لنفسي كنية (أبو محمد)، وقطعت على نفسي عهداً أن أُسمِّى أول طفل ذكر يَهبه الله لي "محمد"، تيمُناً برسول الله أفضل الخلق ﷺ. ومنذ ذلك الوقت وإلى أن أسَّست عائلتي وأنا أُكنَّى بأبي محمد. لكن الله سبحانه وتعالى العظيم في شأنه والحكيم في عطاءه لم يشأ أن يهب لي محمداً، وعوضاً عنه وهبني (مريم ابنة عمران)، و(خديجة بنت خويلد) و(نور السموات والأرض)، فقررت أن أمتِّع نفسي بما وهبني ربي، وغيَّرت كنيتي إلى أبي مريم، فأنا فكريًّا أنتمي إلى المدرسة الواقعية، وأرفض الحياة الخيالية التي تحرمني من فرصة التمتع بالواقع، فلماذا أحيا في مُخيِّلتي حياة لم يشأها الله لي؟
عندما كبرت ابنتي مريم وبلغت السابعة من عمرها، سألتني يوماً: (أبي، إذا جاء أخي محمد.. هل ستتوقف عن التَكنِّي بأبي مريم؟)، وكان في صوتها مسحة عتاب مصحوبة بحزن، وكأنها تعلم الإجابة مُسبقاً، فقلت لها: (عُرفاً الجواب نعم، ولكن ليس لدي أي مشكلة في أن أخالف الأعراف ما دام في الأمر سعة، ولأنك كنت أول فرحة حقيقية في حياتي، فلن أغير كنيتي وسأبقيها أبا مريم). طبعاً لن أصف لكم مدى فرحة الأنثى الفطرية في هذه اللحظات الرحمانية، وكأنها كانت تمشي على الأرض، وفجأة أصبح لديها جناحان تطير بهما إلى السماء من شدة الفرح والثقة بالنفس.
لا شك أننا جميعاً نخضع لضغط المجتمع الذي نحيا فيه، والمجتمع العربي وثقافته السائدة بهذا الخصوص تدفع بقوة نحو إنجاب الذكر، ولكن هذا الأمر يخضع لمشيئة الله وحده ولا أحد غيره {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}، وقد كان بمقدوري إعادة المحاولة لمرات عديدة إلى أن يأتي الذكر، تماماً كما فعل والدي -رحمه الله- فأنا أول ذكر له بعد خمس إناث، ولكن هل هذا الفعل صحيح؟ في تقديري أنه ليس كذلك، فلم تخلُ طفولتي من تحديات كثيرة، وأدركت فيما بعد أنَّ والدي قد كلَّف نفسه بما لا يطيق، وقد دفع هو وكل العائلة ثمن ذلك، فأخواتي لم يحظين بالكثير من الأمور المهمة على المستوى النفسي والاجتماعي، فعلى سبيل المثال لم تحظَ أي منهن بتعليم جامعي، فقررت بكل بساطة ألاَّ أكون أبي، فلا أريد أن أجر خلفي ذرية كبيرة لا أقوى على تربيتها كما ينبغي، وسبق أن كتبت مقالاً منذ سنوات بعنوان (تكاثر الكم أم النوع؟) طرحت فيه وجهة نظري في هذه القضية.
من المهم الانتباه إلى أنَّ هذا الإلحاح على إنجاب الذكر بأي ثمن خلفه ثقافة مُترديَّة انتهت صلاحيتها منذ زمن، ففي السابق لم يكن للأنثى فرص في الحياة كما للرجل، أما اليوم فقد تغيَّرت المعادلة وأصحبت الأنثى قادرة على أن تقوم بكل ما يقوم به الرجل إن استثمرنا فيها وخلقنا لها الفرص، أما لو وضعناها على الرف بحجة أنها ستذهب يوماً ما لرجل آخر.. فلن يحدث هناك أي تغيير، وسنبقى نحيا في زمن منتهي الصلاحية نقضي فيه على جميع فرصهن في الحياة.
هذه الحقيقة أدركتُها يوم تركنا الكويت إبَّان الغزو العراقي واتجهنا إلى الأردن، فقد كان والدي -رحمه الله- قد تجاوز الخمسين من عمره، ولم تكن لديه أية فرصة عمل في بلد مثل الأردن اقتصاده مبنيّ على العلاقات -التي تحتاج إلى سنين طويلة لبنائها- فنهضت والدتي وأنشأت مشروعاً للأزياء والخياطة، استطاعت من خلاله انتشالنا من براثن الفشل، فلولا أن قيَّض الله أمي لإدارة أسرتنا.. لذابت العائلة بالكامل، وكل ذلك كان بفضل دورة في فنون الخياطة تلقَّتها في سبعينيات القرن الماضي أثناء انضمامها لاتحاد المرأة الفلسطينية في الكويت. هذه التجربة أسست لديّ فهماً صحيحاً لقدرات المرأة الممكنة في وقت مُبكر من حياتي، وما زاد ثقتي بهذا الفهم هو هجرتي إلى كندا واختلاطي بالمجتمع الغربي الذي خلق لدي توازناً جديداً فيما يخص قدرات الأنثى.
لاشك أنَّ طلب الذكر هو أمر فطري لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه، فالحصول على الولد الذكر من مُتَع الحياة الدنيا التي ذكرها الله في القرآن، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والبنون في هذه الأية هم الذكور وليس الإناث، ومع ذلك ليس القصد من الآية التقليل من متعة ذرية الإناث، ولكن من خلال الذكر يُبتغى السند والعز والحماية، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، فالذكر كالمال الذي يحمي صاحبه من الفقر والمرض وقلة الحيلة، أما الأنثى تحتاج إلى مجهود أكبر في تربيتها وإدارة شأنها، والاستثمار فيها غالباً ما يذهب إلى زوج غريب لا يستفيد الأهل منه شيئاً، والحقيقة أنه مثلما يقف الولد الصالح بجانب أهله في كبرهم كذلك تقف الأنثى الصالحة، خصوصاً إذا اقترنت بزوج صالح يُعينها على ذلك، فالتربية هي الأساس، والتجربة خير برهان.
أنا شخصياً قررت الاكتفاء بما وهبني ربي لأبدأ مشروع الاستثمار بإناثي الثلاث، فقررت أن أعلمهن كل ما يمكن أن يتعلمه الذكر من سياسة واقتصاد وجغرافيا وتاريخ وعلوم شرعية وفنون قتالية وثقافة شرقية وعلوم إدارة وقيادة وطرق تفكير .. إلخ، والهدف أن تكون كل واحدة مِنهنَّ حرَّة بما تعني كلمة الحرية من معنى، قادرة على الاعتماد على نفسها، من دون أن تكون ضحية مجتمع أحمق يقضي على ثرواته الثمينة بسبب نكوصه إلى ثقافة ما قبل الإسلام البائدة من وحي الجاهلية الأولى.
في يوم ما، وهنَّ لم يتجاوزن السادسة، جلست أحدث مريم وخديجة عن القضية الفلسطينية وقياداتها وفصائلها حتى يتشكل لديهن الفهم والانتماء، ومنذ فترة جاءتني نور (5 سنوات) تسألني عن أحداث سوريا واليمن، وشرحت لها كل مشكلة على حدة، وأصبحت كلما تشاهد نشرات الأخبار بجانبي، تسألني إن كان ما تشاهده الآن يحدث في سوريا أو اليمن أو فلسطين، وما مدى تأثير تلك المشكلات على أمن الأردن وكندا.
منذ سنتين، قررتُ أن أدرب بناتي على فنون قتال رياضة التايكوندو، لقناعتي أنَّ مثل تلك الفنون تعزز من قدرات الأنثى الذاتية والجسدية، ويمكِّنها من حماية نفسها إن اضطرت إلى ذلك لا قدَّر الله. التجربة لم تكن سهلة في بداية الأمر، ولكن إصراري ولَّد لديهن رغبة قوية في الاستمرار، فالتدريب لم يكن مرة أو اثنتين في الأسبوع، إنما تدريباً يوميًّا وبشكل مستمر، وفي الأسبوع الماضي شاركت مريم وخديجة في بطولة على مستوى مقاطعة أونتاريو في كندا، وبفضل الله تمكَّنَّ من حصد ميداليات ذهبية وفضية في تلك المنافسة. يمكن مشاهدة البطولة على الرابط التالي:
دائماً ما أتذكر رسول الله، ولي فيه أسوة حسنة، ذلك النبي الذي عاش حياته ولم يكن له نسل من ذكور، حتى سَخِر منه كفَّار قريش وعلى رأسهم "العاص بن وائل" ونعت رسول الله بالأبتر، أي مقطوع النسل لأنه لم يُخلِّف بعده إلاَّ الإناث، فنزلت سورة الكوثر يقول سبحانه في آخرها {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، أي الذي أساء إليك هو الأبتر وليس أنت يا محمد، لأنَّ العاص مقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة، فليست ذرية الذكور هي ما تُخلِّد الإنسان.. إنما السمعة الحسنة.
إن لم يحمل اسمي أحد بعد بناتي، فيكفيني شرفاً أن يحمله كتاب أؤلفه أو مقال أكتبه، أنشر فيه الوعي والخير بين الناس، ويبقى لي أنيساً في الدنيا والآخرة.
ولدي محمد.. أحببته ولم أرَه، فقدره أن يكون كلمات في كتاب، وحياتي أصحبت أفضل بكثير عندما تصالحت مع الواقع وتوقف بحثي عنه، ولعل الخير الذي أنا فيه اليوم سببه ذلك الفتى، الذي تحول إلى قلم وثلاث إناث.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.