هذه مقالة خاصة جدًّا، فلا عليك أن تضرب الصفح عنها وتمرر الصفحات بعدها فلن يفوتك الكثير، إذ هي كلمات أكتبها لنفسي وللذين ضاع طفلهم في زحام السنين، قد لا تحدث صدى في أسماع الذين لم يختبروا هذه التجربة بأنفسهم؛ فهم لا يدركون دقائقها، بل قد ينظرون إلينا يا صاحبي أننا مبالغون، أو غير شاكرين لما نحن فيه، لكن لا ضير، فتجربتنا شخصيةٌ جدًّا!
"صيّعني يا لمبي" هي كلمة الراحل علاء ولي الدين في فيلم "الناظر"، لكنها شعار أولئك الذين بين غمضة عينٍ وانتباهتها أدركوا أنهم قد شابت قلوبهم، ولم تنبت لحاهم بعض، هم الموقرون قبل أوانهم، أولئك الذين رشدوا قبل صباهم، وشاخوا قبل شبابهم، يغبطهم الناس على حكمتهم، ويغبطون الخلق على بهجتهم!
إن تركيبنا النفسي على ثلاث طيّات، هي ثلاث مراحل إلا أن كلَّ مرحلةٍ عند اكتمالها تبقى معك تؤازرك في بقية الطريق، ربما يفهم ذلك من اعتادوا اللعب بتلك البرامج التي تمنحك مؤهلاتٍ معينةً بعد اجتياز مرحلة أو تحديات في الطريق، وهذه التراكيب النفسية هي الطفل والراشد والوالد الداخلي.
يجيد الطفل الداخلي -كما سائر الأطفال- اللهو واللعب، المرح والانطلاق، وكذلك النوح والغضب، هو حرٌّ بلا قيود، ومنطلقٌ بلا عقبات، لا يبالي بالعواقب ولا النتائج، هو مبادر بكل تلقائية وأريحية، وبعد إشباع هذه المرحلة يتولّد بجواره الراشد الداخلي، الذي يجيد النصح والتوجيه، يعرف الصواب والخطأ، ويحمل في يده مطرقة القضاء الداخلي، لا يتوانى في إطلاق الأحكام ووضع القيود، ويأتي بعد ذلك الوالد الداخلي، بكل ما تحمل الوالدية من الاحتواء والمنح والإيثار والتضحية.
أتدري يا صاحبي .. إننا بقوّة الطفل الذي فينا كما الأطفال على الحقيقة قادرون على الحب بلا شروط، والقبول بلا شروط، العطاء بلا شروط والمبادرة بلا قيود، بقوة المشاعر التي يحملها الطفل قادرون على اختبار الفرح والحزن، السكينة والألم، وإننا حين ننكر طفلنا فإننا ننكر أنفسنا بالجملة، نبقى جمادات بلا روح، أحكام بلا معنى، وشروط بلا حياة.
لكن ماذا عن أولئك الذين فقدوا طفلهم الداخلي، أو لم يعاصروه من الأساس؟ يضطرب ذلك البنيان، ويطغى ذلك الراشد على سلطان النفس، ويطيح بالوالد أرضًا، يطلق الأحكام على نفسه والآخرين، بين شهوة الأحكام واشتهاء المرح مع الامتناع. أتعرف؟! إن صاحبك الوقور الذي ينكر عليك الانطلاق، يحمل بين جنبيه أحلام الطفولة الضائعة التي فقد الطريقَ إليها.
قد يسمى الراشد الداخلي بالـ"أنا" العليا في عُرف فرويد، أو بالضمير الداخلي في تعبير غيره، وتشير كتابات علماء النفس أن الضمير الداخلي هو صدى توجيهات بيئة النشأة، وغالب الذين تاهت أطفالهم داخلهم، هم أطفال لمربين ناقدين بجدارة، هم يجيدون النصح والتوجيه، ويشجعون على الحكمة المبكرة، والتي يسميها علماء النفس بالوالدية الزائفة، بينما الطفل الذي روّضوه بسلطان القاضي الذي دربوه قد أفسد في الداخل كل شيء.
يقولون دومًا إن قلبك يهرم إذا شاخ طفلك، لكن ماذا إن لم تعرفه قط، ويقولون أيضاً أن انتفاخ الجزء لا يغني عن اكتمال الكل، إذ النضج الحقيقي في أن تجمع داخلك بين مرح الأطفال، وحسم الراشدين، وحكمة الكهول، أن يكتمل كلك من بعضك، أن يتهادى الطفل بخفته، ويمنح الكبير من حكمته، بينما يضبط الراشد إيقاع الكل، هو مشوار طويل بالفعل، لكنها رحلة البحث عن الحياة، الحياة من الداخل!
غص داخلك، واستكشف زواياك، وابحث عنك فيك، فهنالك في زاوية منك طفلك التائه ينتظرك، هو لم يمل من التأكيد على نفسه أن والده الداخلي سيأتيه ليبحث عنه يومًا، كن حقيقيًّا وإن صغرت صورتك، كن حقيقيًّا وإن تعالت حولك أصوات النقد، وقد تحتاج إلى أن تفعلها أيضًا كما فعلها ابن الناظر وتقول لصديقٍ ثقة: "صيعني يا لمبي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.