لم يكن أكثر المتشائمين في العراق يتوقع أن تجتاح أميركا العراق! رغم كل ما كان يلوح في الأفق، إلا أن أميركا كانت قد اتخذت قرارها بغزو العراق منذ وصول المحافظين الجدد إلى الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش الابن الممتلئ حقداً تجاه العراق، ولا سيما حين نتوقف عند قول كولن باول "إن إدارة الرئيس بوش كانت متجهة لغزو العراق لحظة أحداث 11 أيلول/سبتمبر".
واندلعت حرب أفغانستان وأسقطت حكومة طالبان، وكانت الأخبار الواردة ترد إلينا في العراق عبر الإعلام الرسمي الذي أبدى تعاطفاً مع طالبان لاشتراك العدو، وعبر الإذاعات، وقد تناهى إلى سمعِنا سقوط حكومة طالبان ودخول القوات الأميركية وقوات المعارضة الأفغانية المتحالفة معها (كابل) وبقية المدن الأفغانية.
انقضى عام 2001 بهذه الصورة، وأعلن بوش استراتيجيته بحربه الطويلة على ما يسمى (الإرهاب) و(من ليس معنا فهو ضدنا) ودول محور الشر (العراق وإيران وكوريا الشمالية).
فأصبح هاجس المواطن العراقي أن الغزو قادم لا محالة رغم كل التطمينات، وبدأت رحلات كسر الحصار عبر رحلات الطيران القادمة من بعض الدول العربية والأوروبي!
كان العام (2002) عام ترقب للعراقيين بين متفائل بكسر الحصار ومتخوف من حرب قادمة تشنها الولايات المتحدة الأميركية، فقد اتضح أن النصر السريع الذي حققته أميركا في أفغانستان، قد فتح شهيتها نحو حروب أخرى وتصفية حسابات مختلفة..
لم تكن ذكرى أحداث سبتمبر/أيلول لتمر دون أن يُبرز الرئيس الأميركي قوة أميركا وسطوتها على القرار الأممي، فكان أن أعلن في يوم 17/9/2002 نهجاً جديداً في مفهوم الضربة الاستباقية ضد الدول المعادية والمجموعات الإرهابية -على حد قوله- وقد بدأ التهديد الفعلي للعراق عبر عودة فرق التفتيش، والعراق يقدم التنازلات دفعاً لحرب باتت وشيكة.
منذ مطلع العام الجديد 2003 بدأ تدفق وسائل الإعلام نحو العراق وعاد العراق إلى الواجهة الإعلامية العالمية، وأصبح المادة الغنية لمعظم وسائل الإعلام.
وأحسسنا نحن في العراق بحتمية الحرب، بعد أن بدأ توزيع المواد الغذائية للعوائل العراقية، وبدأ تدفق القوات الأمريكية على الجارة الكويت انتظاراً لأمر الغزو، والطائرات تمسح الأرض العراقية باستمرار، وفرق التفتيش تعمل على أرض العراق، بعد أن قدم العراق آلاف الوثائق للأمم المتحدة، وكذلك إعادة الأرشيف الكويتي لدولة الكويت..
كان لدينا حدس أن العراق لن يستطيع الصمود العسكري أو الإعلامي.. بعد أن وجه الرئيس العراقي صدام حسين إلى الأجهزة الإعلامية بالعمل على بقاء صوت العراق مسموعاً.. كما وصف ذلك.. ومما أنذر بقرب الحرب أن محطات إذاعية قريبة من العراق، قد قامت بتقوية الإرسال ليعم الكثير من المدن العراقية وهي تبث حربها النفسية في أبناء الشعب العراقي..
كان عملي كمدرس في الجامعة المستنصرية في بغداد، قد فرض عليّ أن ألاقي أسئلة كثيرة، سواء من الطلبة أو من زملائي المدرسين، ونحن نعيش ضمن نطاق الإعلام الموجه، والتي لا أجد لأكثرها جواباً.
وما أن جاء يوم 20 مارس/آذار حتى بدأت الحرب وبدأت الصواريخ تنهال على بغداد، بعد أن أعلن بوش قبلها بيومين ضرورة خروج القيادة العراقية وتسليم العراق للفاتحين الجدد!
ظلَّ الإعلام العراقي صامداً حتى يوم 8/4/2003 أي عندما بدا أن الاحتلال الأميركي أصبح واقعاً، وهنا ننقل حقيقة حرب أميركا مع الفضائية العراقية، كما وصف ذلك رامسفلد بقوله: "إن أميركا تفتش عن الفضائية العراقية".. بعد أن بدا أن الفضائية العراقية قد أخذت مصداقية عند الشعب العربي عامة في نقل تصريحات وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف.
ابتدع وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد مصطلح "الصدمة والترويع" في بدء الغزو على العراق، وأفاق الشعب العراقي صبيحة التاسع من أبريل/نيسان 2003 على خبر مفاده أن القوات الأميركية في بغداد والجيش العراقي حل نفسه وارتدى الزى المدني..
انشغلت وسائل الإعلام العربية والغربية بعدها مباشرة بحدث ساحة الفردوس وإسقاط التمثال عبر تمثيلية أعدت ونفذت بخبث كبير وسوقت عبر وسائل الإعلام بعد اختزال بغداد في (ساحة).. في حين أن مناطق مجاورة للساحة لا تعلم شيئاً عما سمي (سقوط بغداد) وهذا الكلام ينسحب على بقية المدن العراقية لا سيما المناطق الغربية.. ومع تقطع أسباب الاتصال البدائية وغياب خدمة الهاتف المحمول، لم يعد أحد يعرف ماذا حصل ببغداد.. فكانت الصدمة.. صدمة حملت معها صدمات مختلفة.. احتلال بغداد.. المدن العراقية تتهاوى.. أعمال السلب والنهب والتخريب في مؤسسات الدولة العراقية.. جثث تملأ الطرقات، رائحة الموت في كل مكان..
أسر ترحل باتجاه الغرب: الحيرة تمتلك الجميع، ونحن مقطوعون عن العالم.. والفضائيات تنتقي الخبر والصورة، كنا نراقب كل هذا ونحن لا نعلم عن أهلنا وذوينا أي خبر.. وكنا نتوقع الموت لكل من يبعد عنا، والشعور ذاته أظنه عند الطرف الآخر.
وهكذا سقطت بغداد، أما بقية القصة فلا داعي لسردها، لأننا جميعاً نعيش فصولها وتطورات أحداثها حتى يومنا هذا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.