شكلت قضية الصحراء المغربية، وما زالت تشكل الشغل الشاغل للمغاربة على امتداد التاريخ السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال، وحجر الزاوية في النقاش السياسي المعاصر، وذلك لكونها تمس سيادته ووحدته الترابية والوطنية.
وهي مشكلة مفتعلة في ظروف الحرب الباردة ومن مخلفات مخططات التقسيم التي تعرض لها العالم العربي والإسلامي بغية إضعافه واقتسام خيراته.
وإذا كانت قضية وحدتنا الوطنية والترابية، قد حسمت على أرض الواقع حينما استرجع المغرب أقاليمه الصحراوية بمسيرة تاريخية سلمية وغير مسبوقة، فإن كثيراً من التعثرات شابت التعامل مع الملف أمميًّا وجهويًّا ووطنيًّا، وولدت وضعية لم تغادر معها رياح الحرب الباردة على الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين.
ابتداءً من سنة 1991 اقترحت الأمم المتحدة مخططاً للتسوية وافقت عليه مختلف الأطراف وشرع في تطبيقه بالموازاة مع وقف إطلاق النار تحت إشراف بعثة "المينورسو".
لكن المخطط الأممي وصل إلى الباب المسدود بسبب العراقيل التي وضعها خصوم وحدتنا الترابية أمامه، وخاصة الخروقات التي شابت عملية تحديد الهوية، وهي العملية الحاسمة في الاستفتاء، وذلك بحرمان عشرات الآلاف من أبناء الصحراء من حقهم في التصويت. وكان المغرب قويًّا في موقفه من تلك الخروقات إذ أكد باستمرار أنه لن يشارك في أي استفتاء لا يسمح فيه بالتصويت لكل أبناء الصحراء الذين يحق لهم التصويت، لأن "حق تقرير المصير يعني حق جميع الصحراويين في أن يقرروا مصيرهم".
وكان "جيمس بيكر" وزير الخارجية الأميركي السابق والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، قد قام بعدة مبادرات لتقريب وجهات النظر بين الأطراف عبر عدة محطات تفاوضية عقدت بلشبونة ولندن وهيوستن لكن دون جدوى.
لذلك أكد "كوفي عنان" في تقريره لمجلس الأمن يوم 28 مايو/أيار 2000 على أن "تنفيذ خطة التسوية تعرقلت سنة بعد أخرى، على مدى السنوات التسع الماضية، بفعل خلافات أساسية بين الطرفين، بشأن تسيير أحكامها الرئيسية، وعلى أن آفاق تنظيم الاستفتاء أصبحت أكثر بعداً من أي وقت مضى".
ولما تبين بأن جبهة البوليساريو تراوح مكانها، وتتشبث بمخطط تقول عنه الأمم المتحدة نفسها "إنه غير قابل للتنفيذ في الشروط الحالية"، قام المغرب بمبادرة تعكس التجاوب مع قرار مجلس الأمن رقم 1309، الذي يدعو الطرفين إلى "استكشاف حل سياسي جديد"، وتقدم "بمقترح إجراء حوار صادق مع الطرف الآخر، في إطار الوحدة والسيادة المغربيتين، في إيجاد تسوية على أساس الجهوية المغربية".
وهذا ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الذي قدمه لمجلس الأمن بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول سنة 2000. وأضاف أن المغرب "استعداده لاستكشاف كل سبيل ممكن (…) من أجل التوصل إلى حل دائم ونهائي، يضع في الاعتبار سيادة المغرب وسلامته الإقليمية، فضلاً عن خصوصية المنطقة، امتثالاً لمبدأ الديمقراطية واللامركزية اللذين يريد المغرب أن يطورهما ويطبقهما بدءاً بمنطقة الصحراء". كما أعطى هذا التقرير فرصة أربعة أشهر للاطلاع أكثر على المبادرة المغربية، وبروز حدود الصلاحيات، التي ستمنحها الحكومة المركزية لسكان الأقاليم الحاليين والسابقين.
ثم مع بداية سنة 2002 قدم كوفي عنان تقريراً أمام مجلس الأمن الدولي يقدم أربعة خيارات لحل مشكلة الصحراء، حيث اقترح تنظيم استفتاء في المنطقة دون اشتراط اتفاق الطرفين كحل أول، وإعطاء حكم ذاتي للصحراء ضمن سيادة المغرب كحلٍّ ثانٍ، وتقسيم الصحراء بين المغرب والبوليساريو كحل ثالث، وكحل رابع سحب الأمم المتحدة للمراقبين الدوليين العاملين في الصحراء منذ 11 عاماً وترك الأطراف المعنية وشأنها.
وفي هذا السياق أتى مقترح الاتفاق الإطار أو الحل الثالث الذي وضعه جيس بيكر سنة 2001، وهو الاتفاق الذي قبله المغرب ورفضته الجزائر والبوليزاريو.
وفي سنة 2003 طرح جيمس بيكر "خطة من أجل السلام في الصحراء" تفرغ اتفاق الإطار من مضامينه، وتمس بشكل مباشر بالسيادة المغربية، وهو ما دفع بالمغرب إلى رفضها جملة وتفصيلاً، والتعبير عن استعداده التفاوض على أرضية حل سياسي متوافق حوله في إطار السيادة المغربية.
وهكذا يظهر أن المغرب هو أول من طرح الجهوية الموسعة مخرجاً للنزاع المفتعل بأقاليمنا الجنوبية. وعلى الرغم من أن المغرب استطاع على أرض الواقع أن يحتفظ بأرضه، إلا أن التطورات التي استمرت زهاء ثلاثة عقود تتطلب منا القيام بتقييم جريء لدور المغرب وأدائه السياسي والدبلوماسي واستشراف المستقبل بمقاربة نوعية ومتجددة لتخطي الصعاب.
وسأكتفي هنا ما دمنا في إطار محور آفاق التسوية السياسية للخلاف حول الصحراء المغربية بعرض اقتراحاتي في نقطتين اثنتين تتعلق الأولى بإخراج الملف من مجلس الأمن، وتتعلق الثانية بالإسراع بتطبيق جهوية موسعة.
1 ـ إخراج الملف من مجلس الأمن
لقد بات من الواضح أن مجلس الأمن لم يستطع إيجاد مخرج للنزاع المفتعل في الصحراء؛ بسبب تداخل المصالح الجهوية لخصوم وحدتنا الترابية معه، وتعنتهم المستمر. ونظن أنه لم يعد لمجلس الأمن ما يقدمه في الموضوع. لذلك فإن من الضروري العمل على إخراج الملف منه وإحالته على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد أشار إلى هذا الخيار الأمين العام للأمم المتحدة تقريره الذي في قدمه لمجلس الأمن بتاريخ 23 أبريل/نيسان 2004 إذ يقول بالحرف:
"وبالنظر إلى الخلفية التاريخية وإلى الوقائع، فإن من رأيي ورأي مبعوثي الشخصي أنه يبقى في الواقع خياران فقط يمكن أن ينظر فيهما مجلس الأمن. والخيار الأول هو إنهاء البعثة وإحالة مسألة الصحراء الغربية إلى الجمعية العامة، مسلِّماً ومعترفاً بأنه بعد مرور أكثر من 13 عاماً وإنفاق ما يزيد على 600 مليون دولار، لن يتسنى للأمم المتحدة أن تحل مشكلة الصحراء الغربية بدون أن يستلزم ذلك قيام أحد الطرفين أو كليهما بفعل شيء ما كان ليفعله من تلقاء نفسه. أما الخيار الثاني فهو بذل محاولة جديدة لجعل الطرفين يعملان على قبول خطة السلام وتنفيذها".
وأكبر فائدة لهذا الخيار هو فتح المجال أمام المغرب ليمضي قدماً في تطبيق الجهوية بتوافق مع أبنائه ومواطنيه في القريب، بدل أن يبقى مكتوف الأيدي رهين حسابات لا علاقة لها بمصلحة المغرب ولا الأقاليم الصحراوية.
نحو جهوية موسعة
لقد اعتمد المغرب سياسة الجهوية منذ فترة، لكنه اليوم مدعو إلى تطبيقها بمقاربة جديدة تمكن من حل مشكل أقاليمنا الجنوبية في الوقت نفسه الذي يحقق فيه مصالح سياسية وتنموية واجتماعية عديدة. وقد رأينا أن المغرب هو أول من تقدم بمقترح في هذا المجال كما أشار إلى ذلك تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2000. هناك إذن وعي على كل المستويات بأن تطبيق الجهوية هو الحل اليوم لمشكل الصحراء، كما كان حلاًّ في عدد من الدول لإشكالات مماثلة، فجنبها التوترات ومكنها من ترسيخ الوحدة وتحقيق الاستقرار.
ولقد كان مفهوم الجهة السائد منذ صدور ظهير يونيو/حزيران 1971 يتعلق بالجهات الاقتصادية، ثم أتى دستور 1992 ليعطي الجهة طابعاً دستوريًّا بوصفها جماعة محلية منتخبة. وهذا التطور على الرغم من كونه يخرج الجهة من مفهوم إداري صرف، إلا أنه لم يفد في تحويل الجهات إلى شريك في تنمية وطنية منسجمة ومتوازنة ورافد من روافدها. وأبقاها فضاءً لتدخل الدولة، لا كياناً يتكلف بتنميته الذاتية.
لذلك فإننا مدعوون اليوم لإبداع شكل يأخذ بعداً سياسيًّا ومؤسسيًّا وفق منظور جديد للامركزية يروم عدداً من الأهداف نذكر منها ما يلي:
1- اعتماد أحد الأساليب الحديثة في الحكامة الرشيدة والممارسة الديمقراطية التي تأخذ بعين الاعتبار اختلاف المقومات الثقافية والاجتماعية داخل الدولة الواحدة. فهناك جهات لها بعد تاريخي يميزها عن باقي المناطق الأخرى، وبالتالي لها ثقافتها ونمطها المتميز والخاص بها، بحيث إن منطق الديمقراطية يقضي الاعتراف بها ككيان، وبحقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مثل حقها في تسيير شؤونها بنفسها. وهكذا يتم استيعاب التعددية الثقافية والخصوصيات المحلية ضمن منظور شمولي متكامل.
2- التخفيف من حدة البيروقراطية والمركزية التي تعتبر من أكبر معوقات التنمية المستديمة والمتوازنة محليًّا ووطنيًّا. إضافة إلى أن الطابع العمودي الذي يطبع مقاربتنا اليوم لمختلف القطاعات التنموية، عائق من عوائق الانطلاق والتعبئة. وستمكن الجهوية الموسعة من تنمية مندمجة، تنسجم فيها مختلف القطاعات في الوحدة الترابية المعنية وتمنع من الاستمرار في إهدار جزء مهم من الطاقات البشرية والمادية.
3- الزيادة في تعبئة سكان المنطقة أو الجهة المعنية وفي حماسهم للعمل لجهتهم ولبلدهم بسبب توسيع مشاركتهم في تدبير شؤونهم بواسطة هيئات منتخبة بطريقة ديمقراطية، وتكون مسؤولة عن قراراتها سياسيًّا وأخلاقيًّا أمام المجتمع المحلي. وبذلك تنبع التنمية من القاعدة، وتتحول الجهة إلى شريك كامل فيها.
4- تمكين الجهات من التمتع بثمار جهودها التنموية بدل أن يتم تحويلها -بسبب آليات جذب المناطق القوية- إلى جهات أخرى. وبقدر ما تكون الفوارق الجهوية كبيرة، بقدر ما تزداد الحاجة إلى تمتيع الجهات، وخصوصاً منها الضعيفة باستقلالية واختصاصات واسعة لإبداع الحلول الخاصة وتعبئة الطاقات البشرية والمادية.
5- فتح باب التنافس بين مختلف الجهات في مجالات الإنتاج والتنمية.
هذه إذن عدد من الفوائد التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذه الجهوية الموسعة على مختلف مناطق المملكة. لكن ما هي المحاور الكبرى لهذا الحل المقترح؟ هذا ما ألخصه في ما يلي:
1- أن تكون الجهوية مبادرة ذاتية من المغرب وباستفتاء يجعلها حلًّا وطنيًّا متفقاً عليه من قبل المغاربة، لا أمراً مفروضاً من أي جهة، لأن الإملاء الخارجي يمس بالسيادة الوطنية ويتعارض معها.
2- الإقرار الدستوري بالجهوية السياسية والذي هو ضمانة أساسية لإعطاء الجهة مكانة متميزة داخل التنظيم الإداري والسياسي المغربي. فليس المطلوب هو فقط أن يعترف الدستور بوجود الجهة كجماعة محلية، وإنما المطلوب أيضاً أن يرتقي بها إلى أقصى درجة ممكنة من اللامركزية، ويحدد اختصاصاتها، ومؤسساتها، وطريقة انتخاب تلك المؤسسات، وتحديد وسائلها المالية وغيرها.
3- إقرار تقسيم جهوي مبني على معايير مدروسة تدمج المعطيات الجغرافية والثقافية والاجتماعية والتنموية، لإنشاء جهات تمتلك في الواقع شخصيات معنوية، وذات قدرة على تحقيق حد أدنى مقبول من التنمية الجهوية.
4- إن نظام الجهوية على هذا الشكل يسعى إلى الاعتراف بنوع من السيادة للجهة في إطار السيادة الوطنية الجامعة.
5- يكون للجهة مجلس تداوليٌّ أو برلمان جهويٌّ ينتخب بالاقتراع العام المباشر.
6- تمارس الصلاحيات التنفيذية من قبل هيئة تنفيذية منتخبة يمكن اعتبارها بمثابة حكومة جهوية، تمارس صلاحيات التنفيذ والضبط والإدارة المحدودة بنطاق الجهة، كما يكون لها صلاحية التخطيط الاستراتيجي الجهوي الاقتصادي والاجتماعي، والأمن الداخلي والرعاية الاجتماعية والثقافية والتعليم في إطار توجهات وطنية عامة. وتحتفظ السلطات المركزية بمهام الدفاع الوطني والسياسة الخارجية والبنيات الأساسية وبعض الاختصاصات الأخرى التي يجب النص عليها دستوريًّا، كما يعود لها التقرير في مختلف المظاهر والقضايا ذات الطابع السيادي، وذلك على أساس أن الدولة هي التي تتمتع بكامل الشخصية الدولية على صعيد العلاقات الدبلوماسية وغيرها، في حين أن الجهات لا تتمتع بمثل هذه الشخصية. ونشير هنا إلى أن توسيع السلطات التنفيذية للجهة يجب أن تتم ليس فقط بالمقارنة مع سلطات الدولة والحكومة المركزية، ولكن أيضاً بالمقارنة مع سلطات عمال الأقاليم كما ينص عليها الدستور في الفصل 102.
7- تتمتع الجهة بسلطة تشريعية محدودة في نطاق مجالها الترابي، وتحتفظ الدولة بصلاحيات إضافية في حالة التعارض بين القواعد والنصوص القانونية الجهوية والوطنية. وللبرلمان المركزي حق إزالة ذلك التعارض.
8- تتمتع الجهة باستقلال مالي إذ بدونه لا سلطة ولا مسؤولية ولا صلاحيات. وهذا ما يفرض أن تكون للجهة مصادر تمويلها الخاصة بها.
9- تتمتع الأقاليم الصحراوية في إطار هذه الجهوية الموسعة بوضعية استثنائية ينص عليها الدستور، ويمكن أن تكون لها صلاحيات إضافية ومقتضيات خاصة تنسجم مع خصوصيات المنطقة والملف. ولسنا مع حل جهوي خاص بهذه الأقاليم، لأن وجود جهة ذات وضعية خاصة وبحكومة جهوية، في مقابل مناطق أخرى في الدولة محكومة مركزيًّا يمكن أن يضر بمبدإ المساواة بين المواطنين. وبالتالي فإن الترتيب الجديد لعلاقة المواطنين مع السلطة المركزية يهم جميع المغاربة، وإن مع مراعاة خصوصيات بعضهم. كما أن عددا من جهات المغرب لها خصوصيات وإمكانات عانت في ما مضى من التهميش، ستجد لها حلا في تمتعها بهذه الجهوية الموسعة.
10- إن نجاح هذه المبادرة يقتضي التعامل معها بكل شفافية وبديمقراطية تامة، يختار فيها المواطنون بكل حرية من يسير شؤونهم الجهوية، مما سيعطي مصداقية لهذا الحل ويدعم الصحراويين الوحدويين. وهذا يقتضي وضع الثقة في أبناء الأقاليم الجنوبية وفعالياتهم السياسية، كما بالنسبة لأبناء الأقاليم الأخرى، والاعتماد على ذوي الكفاءة منهم.
الخـلاصـة
إن التطور الديمقراطي ببلادنا، بمختلف إنجازاته، محتاج اليوم إلى نقلة جديدة تعزز المكتسبات، وتمكن الجهة من أن تتحول من مجرد فضاء اقتصادي ووحدات إدارية إلى كيان ذي صلاحيات وسلطات فعلية. وهذه الجهوية الموسعة إذا كانت خيارا وطنيا فهي ستجعل المغاربة في الأقاليم الصحراوية يتمتعون بسلطات وإمكانات لتسيير شؤونهم، وستسهم في إنهاء هذا النزاع المفتعل منذ أكثر من ربع قرن.
إن الأمر كله بيد المغرب، بيد كل أبنائه رجالاً ونساء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.