من منا لا يعرف حروب الردة وهي التي خاضها المسلمون تحت خلافة أبي بكر الصديق بكل حزم، ضد من ارتد عن الإسلام في الجزيرة العربية بعد وفاة رسول الله، حيث اعتقدت بعض القبائل أنّ ولاءهم السّياسي كان شخصيًّا للرسول محمد، وبالتالي بالنسبة لهم لم يعد يوجد هناك مبرر لأحد أن يرغمهم على دفع الزكاة، حيث اعتبرت تلك القبائل العربية، أن دفعها لها بعد وفاة النبي محمد أمر مهين لها، كما رفضت بعض القبائل الخضوع لحكم أبي بكر الصديق بسبب العصبيّة القبليّة.
يمكن تفهم القبائل التي ارتدت لأنها كانت حديثة العهد بالإسلام، ولم تكن تعي
حقيقة الارتباط بين العروبة كجسد حاضن للإسلام الذي هو الروح الجبارة الجديدة، التي تحمل قيمة جديدة أضافتها للقيم الإخلاقية العربية، ألا وهي قيمة العالمية والإنسانية، وأن الإسلام هو الروح التي ستنتشر في كل أصقاع العالم.
لذا لا يمكن أن نلوم من لم يسعفه الوقت ليرى ويقرأ عن مدى التأثير الكبير الذي أحدثه الإسلام في العالم، وكيف تمكن الإسلام الذي ارتدوا عنه بسبب العصبية العربية من صنع حضارة وإمبراطورية فريدة من نوعها، صنعت للعرب والمسلمين شأناً وبؤتهم مكانة عالية بين الأمم، بعد ما كان يعتريهم من التفرق والبؤس الشديد حيث كان يتم استباحة بلادهم ومدنهم ويخضعون لتسلط وهيمنة الغزاة بين الحين والآخر.
بلا شك لو أن زعماء تلك القبائل كان لديهم الوعي والفهم لمدى الترابط بين عروبتهم والإسلام، وقوة الأثر الذى سوف ينتج من خلال المزج بين عروبتهم والإسلام، لما ارتدوا عن الإسلام قط، ولا فرطوا في أي منهما.
أما العرب في الوقت الحالي فيعيش الكثير منهم ردة العصر الحديث، والفرق بينهم وبين تلك القبائل التي ارتدت في المرة الأولى، أن العرب في العصر الحالي، لا يوجد بينهم قائد مثل أبي بكر الصديق ليحاربهم.
وثانياً أن العرب في ردتهم الحديثة لا يوجد لهم ذلك العذر الذي كان يشفع لتلك القبائل العربية التي ارتدت من حداثة إسلامهم وعدم الفهم، لأنهم قد ورثوا الإسلام عن أجدادهم، وهم على فهم وإدراك ودراية بما تحقق للإسلام من مجد، عاشت في عزة الكثير من الحواضر والأقاليم العربية والإسلامية.
وثالثاً أن الردة الحديثة كانت أكثر خراباً وتدميراً وتوسعت لتشمل البشر والشجر والحجر، بحيث إن الآية الكريمة (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) يتم تطبيقها حرفيًّا، ولكن بعكس الحال، للدرجة التي أضحى الأجنبي بها هو المدلل والمتحكم، وأصبح التدمير، والقتل في الوطن الواحد، يحدث كضرورة من ضروريات الإيمان وتقرباً إلى الله بدم الآخر من المذهب والطائفة المخالفة، الذي كان حتى الأمس القريب، إما زميل في مقاعد الدراسة، أو في العمل، أو أخ تجمعهم المواطنة ويخضع الجميع لقانون مشترك، ولم يعد هناك وجود لحرمة الوطن والمواطنة، والأخوة، والجيرة، والنسب، والمصاهرة.
كل ذلك حصل بسب الردة الحديثة التي نجح من خلالها العدو المتربص في خلط المفاهيم الأساسية، التي ارتكز عليها الإسلام ونجح من خلالها في تكوين حضارة عظيمة للعرب والمسلمين، عن طريق المزج بين العروبة والإسلام، والتي هي عامل نجاح ومنعة الإسلام.
ذلك السر الذي عرف العدو أنه مكمن قوة العرب والمسلمين وسبب وحدتهم، وأنه لا يمكن القضاء على العرب والمسلمين، إلا عن طريق التخطيط الطويل المدى لخلق ردة أخرى للعرب، تفصلهم عن مكمن قوتهم، من خلال العمل على تفكيك وتفتيت القيم في المجتمع بطريقة ممنهجة، وبوتيرة هادئة وبطيئة التأثير حتى تتمكن من التغلغل في أعماق المجتمع ووعيه، ولا يتم التعاطي معها على أنها شيء غريب على الوعي يجب أن يتم رفضه.
وما نشاهده اليوم من حروب أهلية طاحنة في البلدان العربية، لهو نتيجة وتطبيق على أرض الواقع، لتلك الخطة الشيطانية الممنهجة التي جرى الإعداد لها منذ زمن طويل، تمهيداً لحدوث الردة مرة أخرى بين العروبة والإسلام، تمكنهم من فتح صندوق "بانادورا" الإسلامي بكل ما فيه من شرور النزاعات المذهبية والطائفية والقومية، والتي نجح الإسلام في بدايته في التخلص من كل النزعات والشقاقات الجاهلية، التي تعيق وحدة العرب في ظل الروح الإسلامية الجامعة.
ما يحصل حالياً من في الدول العربية من مآسٍ ومجازر تفوق الوصف وتتجاوز المعقول بسبب ردة العصر الحديث، والتي لن تنتهي دون إفاقة العقل العربي من غيبوبته التي يعيش أسوأ فصولها، بفعل مخدر التشويش الذي حُقن بها الوعي العربي الجماعي، وإرجاع الفكر إلى حالته الأولى التي ترفض كل دعوى للجاهلية، من تعصب وتطرف للقبيلة، والمذهب، والقومية، لأنها نتنة وقد ازكمت الأنوف وأدمت القلوب ومزقت الشعوب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.