رغم توصيفهم لإطلاق النار بالهشّ.. دمشقُ تُصلّي إماماً بالهدنة في ديدمة الموت هذه، مع تمتمات دمشق التي تتخللها تآبينُ الوداع وصلوات الأبدال والقديسين، سبحات الدراويش الخشبية التي اهترأت من الدوران على الأيدي، دمشقُ الزّمكان، ذاك الكف الغجريٌّ الذي قبّلتهُ الحِنّة.
دمشق التي جعلتنا ندور في فلك الأسئلة التي أصبحت كالضباب أمامنا في هذه الحرب، هل فقدت الشام هُويّتَها، بركتها، صوفيتها، حضرتها ووجدها؟
فكأن الشام مُفرَغَة من كل تَرِكتِها، وإرثها ومخزونها، هل هي مدينةٌ من الموت يقطنها أحياء؟ ولكن هل ذراتُ النور ما زالت متوقدةً بدويخلاتها؟ رغم ثالوثها الملعون الذي تعيشه، الحرب، الفقر، الموت.
هل ما زالت تضيء في ليلها المحتوي على عبَرَات تشبه الزمزم الذي أصابهُ بعض الطين، ولكن طعمه لم يتغير؟ هل ما زالت تلك المدينةُ التي اتكأت على حائط الأمل والهدنةِ التي وصفوها بالهشة؟ من خلال أحاديثي مع الأصدقاء، كثيراً ما يسألني أحدهم: هل أصبح أملنا لأن نعود إلى وضعنا الطبيعي هشًّا؟
أو متى سأستطيع السفر بسيارتي من مدينة حماة إلى مدينة دمشق بساعتين بدلاً من ثمانية؟ "يسألني آخر"
أو متى سأشاهد الرصيف بدون أم خالد التي تنام عليه يومياً بفراشٍ ووسادةٍ من قطعتي كرتونٍ مقوى؟ "يسألني أحدهم"!
أو متى سأمتنع من مشاهدة الطفل "جوان" الذي لم يتجاوز الأحد عشر ربيعاً وهو يتكئ على كتفي بالمقعد الخلفي من الحافلة وهو منهك من العمل؟"يسألُني آخر"
أو متى سأمتنع عن المشي بجانب الحائط خوفاً من الهاون الذي سقط بجانب صديقي الذي اضطر إلى بتر قدمه اليسرى؟"يسألني أحدهم".
أو متى سأتوقف عن مشاهدة الشخص الذي نظر لي لوهلةٍ أولى، منعتني من توصيف نظراته المرعبة والقاتلة لي ولضميري كإنسان، وهو يمعن النظر بي جيداً، وهو مكبّل من داخل الحافلة الذي يُقِلّه إلى المحكمة؟ "يسألني آخر".
فرُغم دوامة التساؤلات هذه، ما زال السوريون متفائلين جداً بإنهاء الصراع الدامي هذا، ففي دمشق، يبدو كل شيء ينتظر، الأطفال الذين يريدون الذهاب إلى مدارسهم ينتظرون، والشباب الذين يريدون الذهاب إلى جامعاتهم وأعمالهم ينتظرون، والشيوخ الكُهّل، والنساء اللواتي اشتقن إلى صُبحيّاتهن الممجوجة بالقهوة والأحاديث الاجتماعية التي لا تنتهي، باتوا ينتظرنَ أيضاً، الأشجار والأحجار، الآثار ومتاحفها، الساحات، الأزقة، الدراخيش، الحدائق، السماوات التي ازدحمت بالموتى، كلّهُ بانتظارُ الخلاص الذي أرهق أرواح السوريين، أو السلام الذي حملتهُ قدسية الشام في رمزية ياسمينها الأبيض.
مر قرابة الشهر منذ بدأت الهدنة ، وقذائف الهاون لا تسقط على العاصمة دمشق إلا بالقطّارة، وبشكلٍ نادر، بروز المصالحات الوطنية، الأطفال يتجهون إلى الحدائق المدمرة ليلعبون، الشبابُ لا يمشونَ بجانب الحائط خوفاً من القذائف، إجازات ومغادرات للعساكر والضباط في الجيش، الابتسامةُ تظهر على العديد من الأوساط الشعبية، عودة "السيارين" إلى الواجهة، وهي الرحلات الداخلية التي يقوم بها السوريون في أيام العطل وغيرها من غير توقف إلى المنشآت السياحية وغيرها، حركةٌ تجارية يعقبها نعنشةٌ اقتصادية، دعواتٌ في الليل، أعراس، هدوءٌ حذر، صلوات، تبتّلات للخلاص، إذاً كلّ شيءٍ يسيرُ بأمل.
الكثير من السوريين المقيمين في الخارج يرسلون لذويهم عن كيفية سير الهدنة، وهل إطلاق النار متوقفٌ حقًّا بنسبةٍ كبيرةٍ لا بأس بها أم لا؟
محمد، أحد أصدقائي المقيمين في ألمانيا، يشتكي جداً من تركه للبلاد، وينتظر انتهاء الأزمة لكي يعود، يتألم كثيراً وتتصدع مشاعره جداً من شدة فراقه لبلاده، ويقول إن الطعام غير جيد، وأن جنّة أوروبا المزعومة هي عبارة عن دعاية ترويجية لمجتمع ممتلئ بالقيم غير الجيدة بالنسبة للشرقيين العرب، وأن هناك الكثير من السياسات التي تحاول فرض الخناق على اللاجئين، عداك عن أنه لا يستطيع التواصل بشكلٍ جيد مع المجتمع، بالإضافة لمشاعره التي جرحها سؤال أحد الأطفال الألمان: أنت لماذا جئت إلى هنا، هل أنتم فعلاً تذبحون الناس بالسواطير؟
من زاويةٍ أخرى، أبدى الكثير من الأشخاص الذين تواجدتُ معهم في دمشق حزناً شديداً، على تلك الخبرات الشابة والكوادر الملهمة التي تستنزفها البلاد، وأوضح العديد منهم أن تكلفة خسارة هذه الكوادر أبهظُ مادياً ومعنوياً من تكلفة الحربِ السوريّةِ أضعافاً مُضاعَفة، والتي بدأت الدول الأوروبية بامتصاص طاقات شبابها بشكلٍ تجاريٍّ جيّد "حسبما قالوا"، بل وربّما افتتحت باب اللجوءِ أصلاً لأجلِ هؤلاء الشباب لتقوم بفلترةٍ كاملةٍ لقدراتهم، وتوزيعهم بشكلٍ جيد، وطرد غير المنتجين منهم بحجة انتهاء الأزمة، أو عودة الأمان لبعض المحافظات باستثناء الدولة الأم، أو عدم الاندماج بالمجتمع، كما فعلو سابقاً في العراق وغيرها من الدول التي تعرّضت للأزمات والحروب، فالحجج كثيرة، وبالقانون!
عندما كنت أراجع تلك الآراء مع أسئلة الأصدقاء وآمالهم وآلامهم وطروحاتهم لي أثناء سفري في البولمان، الذي مرّ بي من جانب مدينة حمص، وحصراً منطقة دير بعلبة، كنت أشاهد الأبنية الواقفة على عمودٍ واحد، كنتُ أشاهد أشجار النخل الطويلة، المتقطعة والمرمية على أطراف الطرقات، كنت أشاهد أكوام الحجارة المتبعثرة والمترامية بجانب الجدران والأبواب الحديدية المثقوبة بالرصاص.
كانت الحافلة تمشي وتمشي، إلى أن مررنا بجانبِ بيتٍ عربيٍ أحجارهُ متهدمة وعضائضه مستلقية بجانب أسقف البيت المتراكمة فوق بعضها بعضاً، في وسط هذا الرّكام المرعب، كانت هناك شجرةُ نارنجٍ بيضاء لم تتجاوز المترين، كانت أزهارها متفتحةً بشكلٍ جيد، كانت ميّالةً إلى الشمس التي جعلتها كاللوحةِ في المتحف، ربّما كانت إجابةً لي من الأرض، أنني.. أنا الأرض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.