هناك الكثير من المفاهيم والحقائق المغلوطة الدارجة على ألسن الناس؛ فقط لأنهم هكذا سمعوها ممن قبلهم، فنجدهم يرددونها دون أن يبحثوا في صوابها دون خطئها، ولو أنهم فعلوا لعلموا مكمن الخلل فيها، ومن تلك المفاهيم هي جملة كثيراً ما نسمعها من كثير من الناس هي: "أن التاريخ يعيد نفسه"!
بالتفكير بالعبارة السابقة، نجد أنها تحتاج لشيء قليل من التعديل لتصبح صحية قابلة للتبني، وهذا التصحيح يكون على الشكل: "التاريخ لا يعيد نفسه، بل أحداث التاريخ هي التي قد تتكرر باختلاف الشخصيات والزمان والمكان".
قد يستنكر أحدهم قائلاً: وما الفرق في العبارتين؟ كلتاهما تفيد التكرار؟ وهنا نقول له إن الجملة الأولى تفيد بأن التاريخ يعيد نفس الأحداث -بالضبط- وهذا غير صحيح، في حين أن الجملة ثانية تفيد أن الأحداث هي وحدها قد تتغير مع اختلاف الشخوص، بمعنى أنه في القرون الوسطى أو الفترة التي تلتها كانت أوروبا تعيش في حالة سوداوية شبيهة بما نعيشه نحن الآن، في حين كانت بلاد المسلمين تشع نوراً وحضارة شبيهة بما تعيشه أوروبا الآن، هذا التبدل في الحال وانقلاب الأدوار لا يهم بقدر اهتمامنا بالأحداث التي حصلت في تلك الفترة وما بعدها.. وهذا ما نقصده بأن أحداث التاريخ هي التي تتكرر.
نعود الآن إلى الماضي البعيد نسبياً، حينما كانت أوروبا يعمها الجهل والظلم والاستبداد، في حين كانت بلاد المسلمين هي منارة العلم، والحلم الماجد، والأمنية الأغلى، كانت أوروبا تعيش في تلك الفترة أسوأ مراحلها، حيث كانت الطبقية والأنظمة الأرستقراطية وتحكُّم جماعة قليلة من الأغنياء -أو إن شئت تسميتهم بالنبلاء- تتحكم وتستعبد الأغلبية العظمى من الأمة الأوروبية، وقتها كان العدل مفقوداً، والقوة والنفوذ هي اللغة الأقوى، والأنظمة القمعية البوليسية هي من تحكم، حينها لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت الحاكم، وفي تلك الفترة حاكَم الأوروبيون الحيوانات والجمادات وحتى الأموات بحثاً عن عدل مزيف، واتُّهم العلماء بالهرطقة وطوردوا وحُكِموا، مثل العالِم جاليلو غاليلي الذي اتهم بالهرطقة وحكم عليه بالإقامة الجبرية ومنع طباعة أو تداول كتبه؛ بسبب قوله إن الأرض هي من تدور حول الشمس معارضاً بذلك رواية القوة الحاكمة.
في أتون تلك المرحلة كان الشباب والفتيات يقلدون لبس المسلمين، ويتفاخرون بنطق بعض الكلمات بالعربية، في ذلك الزمن كان يُحكم على عالمهم بناءً على دراسته بجامعة قرطبة أو بغداد.
ألا ترى أن هذه الأحداث الآن تتكرر، ولكن بانقلاب الأدوار! اليوم أوروبا هي منبع العلم والحضارة، وهي من يتوسم الكثيرون فيها العدل والإنصاف، ويطلبون مساعدتها. أما بلاد المسلمين فقدت العدل والأمن، وأصبح الخوف من الحاكم هو من يحكمها، وقبضة الطوارئ هي من تمسكها، وأصبح شبابها يتفاخرون بتقليد الغرب والتكلم بالإنجليزية، وأخذنا نعيب واقعنا، ونُهرّب عقولنا إلى الخارج بحثاً عن الأمان والازدهار..
قد يسأل أحدهم الآن: حسناً! ولكن كيف نعود كما كنا؟ وهنا نرد عليه: إننا نفعل هذا حقًّا، وأحداث التاريخ تواصل تكرارها فعلاً! وأخيراً وبعد ردح طويل من الزمن، وضعنا قدمنا على أول خطوة في الطريق الصحيح. كيف؟! لنعد مرة أخرى إلى أحداث التاريخ، إلى أوروبا المنتكسة، بعد كل ذلك السواد الذي لف أوروبا ومنعها من التقدم -هو نفس السواد الذي يعيشه المسلمون اليوم- قررت أن تصحو من غفوتها، وتقوم من سباتها، وتنتفض في وجه كل ما يعيق تقدمها وتطورها وازدهارها، فكانت الثورات والانتفاضات الشعبية في وجه المستبدين الظلمة، قاموا وحطموا الأغلال، ونسفوا الحواجز، وبددوا الوهم والخوف، فكانت هذه الخطوة أولى خطوات الازدهار والرقي الذي نشهده اليوم في أوروبا.
ونحن اليوم قد بدأنا بالفعل في هذه الخطوة الصحيحة، لكن قد يتساءل البعض: ألم تفشل الثورات، وذهبت ريحها، وانحرفت وضلت طريقها؟ في الحقيقة إن هذا الكلام خاطئ تماماً، فلا تتوقع تغييراً جذريًّا وتحولاً كاملاً قد يحدث في غضون أشهر أو سنوات قليلة. إزالة كل هذا الخبث يحتاج إلى طول نفس وعظم همة. فمثلاً بنو إسرائيل لم ينجوا من التيه من سيناء إلا بعد أربعين عاماً -وهي المدة اللازمة لتغيير جيل بأكمله وبالتالي القناعات السائدة- وثورة فرنسا لم تؤتِ أكلها وتنجح فعلاً إلا بعد سبعين عاماً كان فيها ما كان. مشكلتنا أننا قوم يستعجلون، وسرعان ما ييأسون، إذا أردنا شيئاً أردناه حالاً وفوراً وإلا فلا حاجة له. طريق التغيير طويل وصعب، ويحتاج إلى مثابرة وعزم، وهذا ما نراه في شباب ثوراتنا الحاليين.
قد يستنكر البعض ويقول: ألم تكتفِ من مشاهد الدماء والشهداء، فنرد عليه: أرأيت مخاضاً أو ولادة من دون دماء، أمتنا الآن تمر بمخاض عسير، وولادة صعبة، تحتاج فيها إلى الدماء الطاهرة، وإلا فإن ولادة من دون دماء لا تأتي إلا بجنين ميت، وهذا ما لا نريده بطبيعة الحال بعد كل الدماء التي أريقت، والتضحيات التي قدمت، ويجب على الظلمة أن يعلموا أن الدم لا يجلب إلا الدم، وإن كانوا يراهنون على الزمن فهو ضدهم، وكلما ازدادوا وحشية، زاد سوء الخاتمة، ولهم بالقذافي خير مثال، حاول -على عكس من سبقوه من الزعماء المخلوعين- المراهنة على الزمن وإرهاب الثوار بالدماء، فكانت العاقبة أن يقتل ويجر على الأرض بمشهد مخزٍ دون أن يدري كيف حدث ذلك.
على ذلك الظلم الذي خيم على بلادنا الإسلامية، أن يلملم أغراضه ويرحل؛ فالحق عندما يثور لا يمكن لأحد إخماده، وعجلة التاريخ لا بد وأن تواصل دورانها، ولهم في أحداثه خير عبرة وآية. في النهاية لا يوجد هناك ما يخشاه الثائرون في ظل حالة اليأس والإحباط التي تلفهم، هذه الثورات هي أملهم الوحيد بفجر جديد، ومستقبل وليد، فبعد أن قبلنا بالذل والهوان لعقود من الزمن، وبعد أن تجرعنا الخوف والهزائم المتلاحقة، ها هو جيل جديد يولد ويربَّى على قول كلمة الحق مهما كانت العواقب، وها قد خرج جيل يحلم بالتغيير والتطور، وها هي المنطقة بأسرها -بعد أن نسيت وضلت الطريق وتخلت عن مسؤولياتها وواجباتها- تتهيأ لأمر جديد، فقد تذكرت واجباتها، وأعادت ترتيب أولوياتها، وعادت تحنُّ إلى مجدها وعظمتها، وها هي تتجهز لتحجز مقعداً متقدماً في سلم الأمم كما كانت دائماً.