"هل كنتَ بطلًا؟"، باغتني "أحمد يونس" بسؤاله، وقد أجلسني قبالة الشمس وهي تغرب في البحر، ووضع أمامي ما لذَّ وطاب من الطعام، وزيّنه بأكواب شاي بالنعناع. أعرف أحمد منذ سنوات، هو -رحمه الله- يكبرني قليلًا، لكن علاقتي به أكبر من زمن تعارفنا، ما إن علم بإطلاق سراحي حتى دعاني لزيارته في السويس؛ مسقط رأسينا.
دُهِش من إجابتي، قال إن كثراً التقاهم خرجوا من المعتقل لتوّهم، حدّثوه طويلًا عن بطولاتهم وراء القضبان، ونضالهم من أجل الدين ومن أجل مصر، وأن هذا واجب لا بد من أدائه، "كادوا يشعرونني بالتقصير إذ لم يُلقَ القبض عليّ"، ضحكنا واسترسلتُ في الوصف.. باستثناء قلة من المعتقلين المتمرسين في العمل السياسي، فإن الغالبية في معتقلنا لا حول لهم ولا قوة، والجميع شأنه شأن المخلوقات الطبيعية، يحزن ويفرح، تتبدل عليه مشاعر القوة والضعف، إنها محنة بكل ما تعني حروف الكلمة من معنى، فرن يعيد صهرك، إن كنت تجيد الطهي تخلصت من خبثك وبقي طيبك، السجن مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق، نعَم.. السجن مدرسة عافانا الله منها.
في الساعات الطويلة التي تمر بطيئة.. تجلس وحيدًا وسط الازدحام، تراجع حساباتك، يقفز أمامك الشيطان في كل خاطرة، هو لا يدعوك إلى خيانة مبادئك، هو يعلم جيدًا أنها في الأغلب دعوة خاسرة، لكنه يسميها بأسماء أخرى، يزينها ويزركشها ويطرحها بأغلفة مختلفة، هنيئًا لك إن اكتشفت فساد بضاعته، هنيئًا لك إن رفضت شراءها.
تصحو فتجد نفسك قويًّا مستبشرًا غير آبه بما يجري، وفي الليل تصاب نفسك بالوهن، أو العكس، هي هي ذات النفس، تتقلب يمنة ويسرة، تصعد إلى عنان السماء، ثم تسقط متدحرجة على صخر الجبال، كلنا هذا الرجل، لكن ليس كلنا من يقرر أن يمضي في دربه مهما كان الثمن.
أيام السجن طويلة ومملة ولياليه قاسية، بشكل لا يمكن أن يتصوره الحُر، وأسوأ ما فيها أنك لا تعلم ماذا يخبئ لك الغد، أنت لست محكومًا بحكم محدد الزمن فتعرف متى سيُطلَق سراحك، وإنما أنت هكذا في مهب عاصفة، قد يفرج عنك الآن، وقد تُنقل إلى سلخانات التعذيب غدًا، وفي كل الأحوال تهزك الشائعات التي تنطلق في السجن بسرعة الصاروخ.
رمضان واحد هو الذي قضيته معتقلًا، فيه سمت النفوس، وخمدت المشاحنات، وهدأ القلق، وجُلبت الحلل الضخمة، وتشكلت لجنة لإدارة المطبخ اليومي، فضلًا عن اللجان الأخرى الدائمة كلجنة النظافة، بعد الظهر يبدأ الاستعداد لوجبة الإفطار، تدفقت علينا هدايا أهالينا الزائرين، وتسامحت إدارة السجن قليلًا معهم، وفتحت أبواب الزنازين طيلة النهار، وإلى وقت متأخر من الليل، فإذا ما حان المغرب، أقيمت الصلاة، ورفع الدعاء، ثم وُزّع الطعام الوفير، أعقبه الشاي والقهوة، حتى تبدأ صلاة العشاء والتراويح.
ثم حل العيد، وقررت زنزانتنا الاحتفاء به، أغضب ذلك آخرين، بعضهم قال لا يجوز شرعًا، عبارة يراد بها الحق أحيانًا، والباطل أحيانًا أكثر، زينّا الساحة السفلى، ومزق بعضهم الزينة، وعند الموعد وقفتُ أقدّم فقرات الاحتفال، وبدأت بإلقاء شعر فكان نصيبي "صفيحة زبالة"، ألقيت عليّ من علٍ، نهيًا عن المنكر، لكنها أخطأتني، كان يتقدم الحضور والد خالد الإسلامبولي قاتل السادات، الذي عاب هذا البعض علينا كيف نحتفي بالعيد، والرجل حزين على ابنه.
***
أشعر بخجل شديد وأنا أستعيد تفاصيل هذا الاعتقال، هو بمثابة نزهة صيفية إذا ما قورن بما يجري اليوم للمعتقلين وزائريهم، منذ سقوط الملكية والطاحونة تدور، تدهس الكل، وبمساواة بين الجميع، مهما اختلف المعتقد.
أحلى ما في المعتقل أنه يكشف هذا الوجه الجميل الآخر في الحياة، هذا التضامن الإنساني الرفيع، كلٌّ يتبرع بما لديه، وبما تأتي به زيارات أهله، كلٌّ يعمل، يطبخ، ينظف، يحاضر، لا فرق بين غني ولا فقير، ولا متعلم ولا أمي، كلنا متساوون، لا مكان للكِبْر هنا، رحماء مع الصغار، لطفاء مع الكبار، خادمون للمريض، أو للقادم من سلخانات التعذيب.
ولأن الزنزانة تضم كل الأطياف، فإن منا "الصنايعية"، يتدبرون الكثير من أمورنا بخبرتهم المهنية، ولما كانت الكهرباء تُفصل عن الزنازين نهارًا، ولما كان الشاويش يفصل طرفًا واحدًا من الخط المزدوج، فإن الصنايعي يعرف كيف يتحايل على الأمر باستبدال الخط المفصول بالخط الأرضي بطريقة ما، فتعود الكهرباء ونعمد إلى تسخين الماء لإعداد الشاي.
شاويشنا الطيب، يأتي وينظر من الخارج ويُدهش لوجود الكهرباء، فيعود إلى مقره ليتأكد من فصلها، ثم يأتي إلينا مجددًا فيجدها تعمل، فيصيح الله أكبر، معتقدًا أن هذه من كرامات الناس الصالحين، تمامًا مثلما كان يحدث عندما يقوم بإدخالنا إلى زنازيننا بعد نصف ساعة راحة من المشي والتعرض للشمس، ويغلق باب الزنزانة بالمفتاح، لكن الصنايعي الماهر يعرف كيف يفتح الباب مرة أخرى، فيكرر هذا الشاويش الطيب نفس العبارة، الله أكبر أنتم ناس صالحون.
كنا نضحك كثيرًا، كما ضحكنا يوم وصل للمعتقلين من أهل الإسكندرية الضابط "فرج"، ليتحاور مع كل منا بما لا يزيد عن دقيقتين، سألته "فرج بيه، مش كل الأنشطة اللي كنا بنعملها في الجامعة كانت مرخصة، وحصلنا على موافقات رسمية بشأنها؟"، فأجاب سيادته "وقتها كانت رسمية، دلوقتي إحنا شايفنها مش كدا".
سيمر زمن، وسألتقي فرج بك صدفة أمام محطة "سيدي جابر" بالإسكندرية، فيما كان طلاب الجامعة يتظاهرون، كان مشهدًا سينمائيًّا بالدرجة الأولى، حين وجدته فجأة بجانبي، تبادلنا التحايا، وكلٌّ منا يقف يرقب الموقف، وكلانا لا يعمل، أنا لا نشاط لي، وهو خارج الخدمة لأسباب لا أعلمها، أنا أقول له من المفترض أن يفعل المتظاهرون كذا وكذا، وهو يقول لي من المفروض أنّ رجال الأمن المركزي المنتشرين بكثافة أنْ يفعلوا كذا وكذا، وهكذا إلى أن انتهى المشهد.
عم الملل أيامنا، ليس هناك من جديد، نفس الحياة اليومية التي تسير ببطء شديد، نودي على مجموعة من المعتقلين، فأصابنا القلق، غير أن ضباط السجن أبلغونا أنها كشوف المفرج عنهم، قفزت قلوبنا فرحًا، وودعنا أصحابنا.
"مع السلامة.. مع السلامة يا أبو عمة مايلة" بات هو نشيد الوداع، يسمع المفرج عنه اسمه، فيسجد لله شاكرًا، ثم يجتمع حوله الحضور مهنئين، ثم يهرع إلى ترتيب حاجاته، ثم يوزع منها على أحبائه ما يعتقد أنه لم يعد بحاجة إليها، ثم نودعه، نحمله الرسائل والوصايا، ثم نعود إلى أماكننا، ينتابنا الضيق أن أسماءنا لم تشملها القائمة، لكننا نواسي أنفسنا، أن الفرج هلت بشائره.
مر أسبوعان فقائمة أخرى، فأسبوعان فقائمة تعقبها، وهكذا، ثم طال الغياب، وانقطعت القوائم، وعمّ الضيق، وخفنا أن نكون من المغضوب عليهم، وفي الثامن من الشهر الثامن لعام اثنين وثمانين أُغلقت الزنانين، وسكن الناس، فلا همسة ولا همهمة، وعلى كل أبواب الزنازين عانق البعض القضبان ينتظرون زميلنا صاحب الصوت الجهوري وقد سلمته الإدارةُ القائمةَ الجديدة لينادي عليها.
أتى صوته قويًّا جليًّا فرحًا "اسمع اسمك في الإفراج"، ثم بدأ ينادي على الأسماء بحسب الحروف الأبجدية، حتى وصل إلى اسم أسامة، لحظات فإنْ لمْ ينطق اسمي يصبح عليّ الانتظار لجولة جديدة.
كانت عائلتي على علم من الجرائد أن هناك دفعة جديدة من المفرج عنهم، وفي الرابعة صباحًا توجه أخي وأختي إلى محطة قطار طنطا لشراء الصحف التي تصل في مثل هذا الوقت لتوزع على الباعة، التهموا قائمة الأسماء بحثًا عن أخيهما.
أول مرة تقرأ اسمك فيها منشورًا في مطبوعة مذيّلاً في نهاية الخبر أو المقال تصيبك فرحة لا مثيل لها، أول مرة تسمع اسمك ينطق به المذيع في الراديو أو التلفزيون مقدمة أو نهاية لتقرير، تعم نفسك نفس الفرحة، في حالتنا هذه الأمر مختلف.
نطق صاحبنا اسمي رباعيًا كاملاً فكان أحلى مرة أسمع فيها اسمي، سجدت شكرًا لله صاحب القرار، تلقيت التهاني بصوت خفيض حتى لا نشوش على صاحب الصوت الذي ما زال يتلو الأسماء، ثم انطلقتُ إلى صندوقي المعلق على الحائط، وأخرجت بنطلوني الذي سأرتديه لأول مرة منذ عشرة أشهر كاملة.
أتخيل ما سيقع، ستفتح أمي الباب، وستحيطني بدموعها، أنتم لا تعرفون أمي، ولذلك لا تعرفون معنى الجنة في عناقها، وستكون قد أعدّت كل ما بوسعها من طيب الطعام لتعوضني ما جرى معي في الغياب، أما أبي النحيف العملاق فسوف ألقي بنفسي عليه، ثم أقبل يديه، وسأطلب منه أن يسامحني عما أصابه من مرض حزناً عليّ.
تأخر خروجنا قليلًا، لكنني كنت أدور بنظري في أنحاء السجن، ياه! حتى تلك الأيام السيئة تمضي، لا شيء يستمر، أوقفونا صفًّا، أوصونا بالطاعة، ثم أبلغونا بضرورة مراجعة رجال الأمن في القسم الذي نتبعه عندما نصل مدننا، ومن الباب الضيق خرجت، نفس الباب الذي استغل إيطالي متهم بالاتجار في المخدرات انشغال رجال السجن بمشاهدة مباراة الأهلي والزمالك المقدسة ليخرج منه قبل عدة أشهر، بعد أن تم تهريب زي ضابط شرطة إليه، غير أني لم أصفع الحارس كما فعل ليحبك فعلته.
سجدتُ على الأرض، ثم استويت واقفًا حاملًا حقيبتي التي رافقتني، فوجئتُ بأخي وأختي ينتظرونني وقد أحاطوني عناقًا وتقبيلًا، بعد أن انفجروا عناقًا وتقبيلًا عندما قرأوا اسمي في قوائم الإفراج صباحًا، فيما الذين يتحتم عليهم المزيد من الانتظار تسلقوا نوافذ زنازينهم ليغنوا لنا "مع السلامة يا أبو عمة مايلة"، أهاليهم ينظرون إلينا وهم يبكون، فرحًا لنا وحزنًا على ذويهم الماكثين داخل المعتقلات، تلك التي مثل معابد الفراعنة في بلدي.. خالدة.
أسعد طه
الجزء الأول من "باب ما وراء الشمس" اضغط هنا.
الجزء الثاني اضغط هنا.
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.