مجاناً في “الجريك كامبس” وبالدم في التحرير!

ولكن طول غياب البوصلة واستمرار نزع القيم والأفكار الكبرى (التغيير - الأمل - الصالح العام - العدالة - الاستقامة - الوعي - الحرية) هو تكريس لفكرة الخلاص الفردي (ياكش تولع)، فيُصبح كل همك هو أن تنجو وتلحق بفرصة في الداخل أو منحة للخارج أو قارب ينتشلك من مجتمع آسن ودولة متعفنة

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/14 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/14 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش

في مصر عام 2016 هو عام احتواء الشباب، أما 2015 فهو عام احتشادهم داخل المساحات الحرة (Co working spaces) وقاعات الدرس والمحاضرات، والصالات المفتوحة والمعارض المُغطاة، والمسارح والمراكز الثقافية والمكتبات، والمزارات الأثرية ورحلات السفاري والاستكشاف والمخيمات والمعسكرات، والحدائق الزاهرة والبواخر الفاخرة والشواطئ الفائرة، والنوادي والقهاوي و"المولات" والسفارات!

فَلَمْ يخرج من قيد أسوار تلكم الأماكن وأسر حيطانها إلا مجموعات شبابية لا تهدأ؛ تتحرك بسرعة وخفة عبر شوارع وميادين القاهرة تجوبها طولًا وعرضًا، يملأها الدفء والحماس والقوة والإصرار في (تجمعات الجري أو ركوب الدراجات)، فتجدهم مُجتمعين في ميدان العباسية أو دوران شبرا؛ لينطلقوا في الثامنة صباحًا في حشودٍ سائرة، فأين غابت حشودهم الثائرة؟!

ابتلعتهم "الجريك كامبس"، ابتلعهم المبنى اليوناني لحرم الجامعة الأميركية، الذي أُعِد ليكون أول مركز ومُجمّع للمكاتب الإدارية العاملة في التكنولوجيا والإبداع في قلب عاصمة العرب، فبعد أن تحول المبنى القديم بوسط القاهرة لركن يحتضن شركات التكنولوجيا الناشئة والمبادرات والأفكار الجديدة والمشروعات الصغيرة؛ أصبح قبلةً لكثير من الشباب كعاملين في إحدى خلاياه الإبداعية، أو كمُريدين وزوّار يحجّون إليه في كل شهرٍ مرةً أو مرتين.

وفي نفس الشهر أنت ستذهب لصالة ألعاب القوى "الجيم"، وهي ستذهب لورشة فن طي الورق "الأوريجامي" في "ألوان وأوتار"، وآخر لدورة تأسيسية في العلوم الإسلامية في "شيخ العمود"، وأخرى لمحاضرات المنطق في "مشروعنا بالعقل نبدأ".

وشاب سينضم لحفل فرقة "كايروكي" في "ساقية الصاوي"، وفتاة ستلحق بورشة رقص الهيب هوب في "الربع"، والكاتب ستجده في لقاءات فن كتابة الرواية في "بيت السناري"، والمسوّق الإلكتروني ستعثر عليه في ورشة وسائل التواصل الاجتماعي في السفارة الأميركية في "جاردن سيتي"، وصانع الأفلام المبتدئ في ورشة صناعة الأفلام في "التحرير لاونج"، والناشط في منتدى الحوار في السفارة السويسرية، وغيرهم يغدون ويروحون على الندوات وحفلات توقيع الكتب، وجلسات الحكي والغناء الحر والعزف المنفرد، وعروض الكوميديا والضحك وإلقاء النكات، والشعر والعروض المسرحية والأفلام.

وكثير مما سبق مجانًا وبدون أي مقابل وبعضه بمبالغ رمزية أو قليلة، فأيهما أفضل؟..

أن تنشغل بأهل الثورة والتغيير السياسي سواء الذين لم يُغيّروا استراتيجيتهم الفاشلة منذ 2013 وفي مقدمتهم التحالف الوطني لدعم الشرعية، أو الذين يريدون الرجوع لنقطة الصفر – 11 فبراير 2011 – ثم البدء من جديد كبعض الحركات والتجمعات الشبابية، أم تترك الشوارع والميادين لهؤلاء وتتفرغ أنت لأحداث تعليمية وفعاليات ترفيهية لا تنتهي ولا تتوقف؟

الاختيار الثاني يُمكنك من الاستفادة على المستوى المعرفي: (ريادة الأعمال – الريادة المجتمعية – إدارة المشروعات – الفرص والمنح – التسويق الرقمي – الإسعافات الأولية – العلوم الإسلامية..)، ومستوى اللغات: (لغة عربية – إنجليزية – ألمانية..)، والمهارات والفنون: (التعلم الذاتي عن طريق الإنترنت – التنمية البشرية – الحرف اليدوية – الحوار والتفاوض والمناظرة – التفكير – التخطيط – القراءة السريعة – الترجمة – الرسم – الكوميكس – التصوير – الجرافيك – المونتاج – العمل الحر – الحياة الزوجية..)، ومستوى القيم: (السلام – التعايش – العطاء – التطوع..).

ولم يعد الأمر مقتصرًا على القاهرة؛ فالإسكندرية وأسيوط وشبين الكوم وسوهاج والسويس والزقازيق وغيرها من محافظات ومدن بدأ يُصيبها ما أصاب القلب، من دوران وتطواف حول معاني التطوير الذاتي والاستقلال المهني والتغيير الشخصي.

لم تعد أولوية ملايين الشباب في مصر التغيير السياسي أو الاستقلال الوطني أو المشاركة المجتمعية، لم تعد الأزمات الكبرى من حقوق آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المعتقلين والاختفاء القسري والتصفية الجسدية والتعذيب، وسرقة الغاز المصري في المتوسط وتهديد شريان الحياة "نهر النيل"، والقتل والقتل المضاد في سيناء وحصار غزة، واستخفاف الفريق السيسي بجوع المصريين وسيطرة الجيش على الثروات والتجارات والاقتصاديات والخيرات، والثورة العربية خاصة في سوريا، محل اهتمام كبير؛ فالقضايا الجامعة والنوازل والملمات تذيّلت سُلّم الأولويات، ليصعد شغف واهتمام بالغ من جموع شابة بهمومهم اليومية واهتماماتهم الشخصية وحياتهم الخاصة.

ولم يقف سيل الحركة عند هذا الحد، فالتكنولوجيا التي أتاحت الفرصة لحشد الجموع في ميادين التحرر ها هي تحشدهم اليوم في مهرجانات الأكل (مهرجان المكرونة بالبشميل)، ومهرجانات الحب والعشق (مهرجان البوسة)، ومهرجانات العلاج النفسي (تجمع المكتئبين)..

وعلى جانب مقابل طاقات أخرى مكبوتة وغضب محتدم أصبح يُفرّغ شحنته في أحداث افتراضية لا ترى الأرض، كصالونات إلكترونية يجتمع فيها عشرات الألوف في نوستالجيا تحن للماضي (صورتك وأنت صغير)، أو تهكم وسخرية من واقع بائس (اكدب كدبة متتصدقش)، أو محاولة للإجابة عن سؤال حالم (لو أنت رئيس جمهورية هتعمل إيه؟)، وقد يرد غير واحد على السؤال الأخير بالإجابة الأبرز والتي تعنون مرحلة تململ وتيه وضجر قائلا: "ميصحش كدا!".

فلا يصح أو يُعقل أن بعد أن أصبحت المدارس والجامعات والمساجد والمعاهد، ومن بعدها شوارع وميادين الثورة غير قادرة على إعطاء إجابة أو حل لمعضلة البلاد ومحنتها، بل وأزمة الإنسان المصري ذاته، أن تكون الإجابة عند دعاة أجدد من الجدد (Islamic motivational speakers)، أو مُدرب تنمية ذاتية محترف أو نجم لغة أجنبية مشهور أو متحدثة خفيفة الظل، فالنخبة غائبة ونعم يُمكن أن يصنعها هذا التفاعل والحَراك، وبالفعل هناك من هم مُرشحون لسد الفراغ في المستقبل.

ولكن طول غياب البوصلة واستمرار نزع القيم والأفكار الكبرى (التغيير – الأمل – الصالح العام – العدالة – الاستقامة – الوعي – الحرية) هو تكريس لفكرة الخلاص الفردي (ياكش تولع)، فيُصبح كل همك هو أن تنجو وتلحق بفرصة في الداخل أو منحة للخارج أو قارب ينتشلك من مجتمع آسن ودولة متعفنة، وتظل تلوم وتجلد نفسك لأنك لست مؤهلًا بعد لهذه الفرصة أو تلك المنحة، وحتى تنجح وتصل تظل هذه البيئة تُخدّرك وتحاول نزعك من رسالتك وحلمك وقضيتك، وأقسى ما يُمكن أن يكون في النهاية هو أن تَضيع فرصتك الشخصية وتَغرق سفينة الوطن بعد أن تركتهم وما أرادوا!

وهنا لا أطالبك أن تأخذ على أيدي المُنظمين والمتحدثين في هذه الأحداث والأنشطة والفعاليات، بل هؤلاء كنز لمن يستطيع أن يحتشد معهم، باستراتيجية ذكية في الاتجاه الصحيح تؤتي أكلها ولو بعد حين، فليس العيب في "الجريك كامبس" أنها تفتح بابها الرئيسي في شارع التحرير؛ فإن النفوس السوية تعشق الفرص ذات المخاطر المحسوبة، وتكره المخاطر ذات الفرص الضائعة ولو كانت في ميدان التحرير.

المهم الآن ألا تتجاوب مع عملية خداع عقلك وتبريد حنقك وتنفيس ثورتك و"احتوائك"، ولا تستجب لحالة الخدر اللذيذ الذي يُلخّص طموحك الفردي في أن تجوب الشوارع بائعًا للفريسكا مؤنّقًا الهندام؛ فتجد فجأة في اليوم التالي خطابًا بمنحة لبلاد العجائب كما حدث لأحدهم، فالأصل في المستقبل الشخصي أنه لا يُشترى بالفريسكا، والمؤكد في مستقبل الشعوب أنه لا يُقدَّم كمنحة مجانية أو هبة من اليونان أو الأميركان؛ ولا بد من دفع الثمن ولو بالدم!

ملحوظة كاذبة: خصم 90% على دورات المركز الثقافي الروسي بالقاهرة؛ دعمًا لاحتواء الشباب!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد