يُحكى أنَّ | باب ما وراء الشمس “3”

ثمة مرحلة أولية من التعذيب كانت تجري في معتقلنا، وكنا نسمع الصراخ مساء فيصيبنا الهلع، المنطق غائب، ولا يكفي أنك غير متورط في أي عمل عدائي بمفهوم الدولة، أنت في الأصل مدان، ولا ثمن لك

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/04 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/04 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش

"أنا أول واحد في الصفيحة"، صاح سيد بصوت أجش حازم، حانقين نظرنا إليه جميعًا، لكن وفقًا للقواعد المتفق عليها لم يكن أمامنا إلا الموافقة، بل والمشاركة، وسريعًا صاح آخر "وأنا اتنين"، وآخر "وأنا تلاتة"، وهكذا حتى وصل عدد من في الصفيحة إلى حوالي عشرين.

ما إن يتطرق الحديث إلى السجن والاعتقال، إلا ويتبادر إلى الأذهان كل صنوف التعذيب والهوان التي يذوقها المعتقلون في عالمنا العربي -وأيًّا ما كان انتماؤهم- على يد سجانيهم، لكن لا أحد يذكر هذه الأمور، إنها أشكال أخرى من الحرب النفسية.

جلست أحدث نفسي في زنزانتنا التي أشبه بعلبة السردين، "تخيل أنا مشفتنيش من تلات شهور"، ثمة أشياء صغيرة في حياتك اليومية لا تهتم بها أبدًا، تصبح بعد غيابها من الأمور العظيمة، للأسف لا يُعترف بقيمة الأشياء إلا بعد غيابها، منذ ثلاثة أشهر لم أنظر إلى المرآة، لم أمشط شعري، لم أستخدم فرشاة الأسنان، لم أقلم أظفاري.

إدارة الزنزانة التي انتخبناها وعلى رأسها "مختار نوح" أرست قواعد وأسس التعاملات اليومية منعًا للخلاف، فإذا مثلًا دخلت الزنزانة صفحتان من جريدة كان أحد المعتقلين الجدد يلف بها أشياءه، فإنه يتوجب على الراغبين في القراءة تسجيل رغبتهم عبر الأرقام، فيصيح واحد "أنا أول واحد في الجرنان"، ثم آخر أنا الثاني وآخر أنا الثالث وهكذا.

بعد ثلاثة أشهر سُمح لنا بشراء بعض المواد الغذائية وهي تحديدًا الجبن والحلاوة من كانتين السجن، مستخدمين بعضًا من أموالنا التي صودرت عند دخولنا، وهكذا فما إن تَسَلَّم سيد أول صفيحة جبن حتى نظر فيها وأدرك أنها تعكس صورته كالمرآة التي يفتقدها فصاح صيحته الشهيرة "أنا أول واحد في الصفيحة"، وبدأت الصفيحة وهي مغلقة وممتلئة تمر على المعتقلين بحسب ترتيب حجوزاتهم، كل واحد يمسك بها وينظر فيها يتفحص وجهه، وكلنا نكاد نقول نفس المقولة "من هذا الأشعث الأغبر".

ومن أطرف هذه المواقف التي اعتُمِد فيها هذا النظام هو ما حدث عندما تسللت قطة السيد الضابط إلى زنزانتنا، فاستُقبلت استقبال الأبطال، ونادى المنادي "أنا أول واحد في القطة"، وتتابع المنادون، كل يتحسسها ويداعبها، إنها تذكرنا بالعالم الآخر، خارج هذه الأسوار العالية.

***

اثنان وسبعون شخصًا في زنزانة تسع خمسة عشر، اثنان وسبعون من الثقافات والعادات والطباع المختلفة، والمتناقضة جدًا أحيانًا، عليهم جميعًا أن يتأقلموا، المأساة الكبرى كانت في استخدام دورة المياه، مثلًا عند الاستيقاظ لصلاة الفجر، أو أي صلاة في نهار اليوم، فلو افترضنا أن كل شخص سيمكث دقيقتين فهذا يعني أن آخر واحد عليه الانتظار 144 دقيقة، أي ما يزيد عن ساعتين وثلث.

ونظرا لاختلاف عادات الناس وظروفهم الصحية فإن البعض قد يستغرق أكثر من ذلك، لذا قامت السلطات في الزنزانة مشكورة بتعيين شخص يمسك بالساعة وينادي على أي شخص يدخل الحمام، لقد مرت دقيقة من وقتك، احترس متبقي نصف دقيقة. وبالطبع لا يخضع الجميع للنظام، ويجتمع الحضور على ضرورة توقيع عقوبات على المخالفين، فيما هم يرفضون، وهكذا جدلية عبثية.

معضلة أخرى كانت تواجهنا عند النوم، كيف ينام هذا العدد، تم التنظيم بدقة، كان شريكي في المساحة المخصصة هو مصطفى الذي تركني الضابط عصام في قسم الإبراهيمية واتجه للقبض عليه، فلم يجده حينها، اتفقت مع مصطفى لضيق المساحة المتاحة أن ينام أحدنا على ظهره، والآخر على جنبه، ثم نتبادل المواقع في منتصف الليل، كنت واثقاً في مصطفى، لكن المشكلة كانت في الجيران أحيانًا الذين يتعدون على مساحتنا، وفهمت حينها مسألة النزاعات الحدودية بين الدول.

لم نكف عن الضحك والحزن والشجار، مثل البورصة ترتفع معنوياتنا وتهبط من حين لآخر، وأحيانًا فجأة، خبر صغير يصلنا، أو موقف يقع لنا، وكم حمدنا الله كثيرًا أنه لم يتم قبولنا في سجن طرة، لقد تحول إلى سلخانة بشرية، نودي على بعضنا وتم ترحيله إلى هناك ولم نعد نراه، غير أن الأخبار تتداول بين السجون بتداول السجناء بينها.

لكن ثمة مرحلة أولية من التعذيب كانت تجري في معتقلنا، وكنا نسمع الصراخ مساء فيصيبنا الهلع، المنطق غائب، ولا يكفي أنك غير متورط في أي عمل عدائي بمفهوم الدولة، أنت في الأصل مدان، ولا ثمن لك، أقنعت نفسي بحيلة طريفة، كانت ساذجة جدًا، لكني تمسّكت بها حتى لا أنهار، لقد كنت مريضًا لخمسة عشر عامًا، هكذا أحدث نفسي، إذن بنيتك التحتية ضعيفة، ومع أول ضربة ستنهار وتفقد وعيك ولن تشعر بما سيجري لك، كنت أضبط نفسي أضحك من هذه الحيلة، ثم أتظاهر بتصديقها!

ويبدو أنه قد حان الموعد، فقد تأخر إفطارنا يومًا، ثم نودي علينا وأدركنا أن في الأمر جديداً، أخرجونا من بيوتنا "الزنازين"، وجلسنا القرفصاء في صفوف، حولنا الضباط والعساكر، لكن أيضًا مجموعة من المساجين الجنائيين وفي أياديهم أشياء لم تتضح بعد، ثم بصفارة من الشاويش انطلق الجنائيون إلى عملهم، قص شعورنا ولحانا، كانت أياديهم ترتجف، كانوا يعتذرون، إنهم يكنون لنا مشاعر عميقة من الاحترام، فنحن أعداء الدولة، ونحن المهندسون والأطباء والأساتذة والمحامون.

من حرمني شعري لم يقم بمهمته على أكمل وجه، ثمة منطقة منزوعة الشعر، ومنطقة أخرى ما زالت تعيش مجدها، وأصبح ذلك مثار ضحك الكثيرين، غير أننا ضحكنا أكثر على رفيقنا الذي ذكّرنا بدور "محمود المليجي" في فيلم الأرض عندما حلقوا له شاربه، إنه يعتقد أن العار قد لحق به جراء حلق لحيته تحديدًا، ولف وجهه بغطاء الرأس ليخفي هذا العار الذي لحق به، كان يتشاجر معنا على أي أمر نراه ذا شأن صغير في الدين ويراه كبيرًا، وبعد أن مرت الأيام وأفرج عنه، كانت صورته وهو يرتدي القميص والبنطلون، حليق اللحية تتصدر إحدى المجلات الأسبوعية وهو يتحدث عن توبته عن هذا التيار.

تتغير نظرتك لأمور كثيرة وأنت في السجن، سواء عندما تستدعي ذاكرتك أحداثًا جرت معك، أو لما تشاهده في السجن، أحدنا كان قريبه يقضي عقوبته بقسم آخر في جريمة قتل ثأرًا، كنت أتخيل أن القتلة وجوههم قبيحة وسلوكهم فظ، لكن هذا الرجل كان يأتي لزيارة زميلنا، مهندم الملبس مهذب الكلام، استغل فترة وجوده في التجنيد وتسلل خارجًا من معسكره ليرتكب جريمة الثأر معتقدًا أن وجوده الرسمي في معسكر التجنيد سوف يبرئه، لكن لسوء حظه وقعت لسيارته حادثة وهو عائد وحُرر محضر بذلك وكان دليلًا عليه.

الطريف أن أحدنا وهو رجل عجوز متدين، أراد يومًا أن يدعو شخصًا آخر من الجنائيين المحكوم عليهم بالمؤبد إلى الصلاة، فرد الرجل سريعًا "لا يا مولانا أنا مش عايز أروح في داهية"، كنا نضحك أي داهية أكثر من حكم مؤبد عليه؟!

أعادونا إلى زنازيننا، ما زلنا دون طعام من الليلة الفائتة، ثم عصرًا نودي علينا مرة أخرى للخروج ومعنا أمتعتنا، انتابنا الهلع، فهل سيتم ترحيلنا إلى سلخانة طرة، وقفنا صفوفًا، وأُبلغنا أننا سننتقل إلى القسم الآخر، تبدل خوفنا فرحًا، فالقسم الآخر هو أفضل حالًا من قسمنا، بناية من عدة طوابق، وبها علية القوم من المعتقلين الذين زَجّ بهم السادات من كل طيف في اعتقالات سبتمبر/أيلول الشهيرة؛ والتي كانت مقدمة لاغتياله.

في هرج ومرج دخلنا الزنازين الجديدة، وبقينا حتى المساء إلى أن وصلتنا وجبة الطعام بعد انقطاع دام يوماً كاملاً، ثم اتجهنا للنوم، خلعت عدساتي اللاصقة بحرص شديد ووضعتها في علبتها وأغلقتها بإحكام، ثم دسستها تحت ما صنعتُ به وسادةً في حرص شديد، فهي الآن أغلى ما أملك.

أطفأنا الأنوار، تبادلنا النكات عن هذا اليوم العجيب الذي ظننا أنه انتهى، ثم صدر مرسوم بأن علينا أن نصمت وننام فانصعنا للأمر لمدة دقيقة، فقد ارتجت أنحاء السجن بصفير العساكر وصياحهم مع مقاطع من الشتائم المحظورة دوليًّا، ومصحوبة بالأوامر بأن نجلب كل ما لدينا وننزل إلى الساحة حالًا.

كان هلعًا شديدًا، وداست الناس على بعضها وقد خشينا أن يصل الشاويش إلى طابقنا ولم نلم حاجتنا وقد حصل، ونزلنا جريًا على السلم، فيما اصطف على اليمين واليسار السجانون يوزعون علينا صفعاتهم وشتائمهم، شخصيًّا أمسكت بحاجاتي في يدي اليسرى، أما اليمني فقد أطبقتها بإحكام على علبة العدسات اللاصقة ريثما تسمح الفرصة بارتدائها.

لو كانت الساحة مُنارة لعانيت من الرؤية، فما بالكم وهي مظلمة وأنا لا أرتدي عدساتي، غير أنني وقفت مع الواقفين في صفوف، وبدأت أسمع ما تتحرك به شفاههم من دعاء، من كان بجانبي كان يرتعش، "هو فيه إيه يا جماعة؟!" وددت لو أستطيع أن أستفهم، لكني ظللت واقفًا منتصبًا.

في نفس هذه الساحة من سجن أبو زعبل تُروى الحكايات التي ذكرها الإخوان في مذكراتهم، أن المعتقلين قد أُوقِفُوا كما أوقفونا الآن، ثم أخرجت صفوف العساكر تحمل أسلحتها فوق بنايات السجون، ثم أُطلِق النار ووقعت المذبحة، ولذا تصور الحضور أن هذا ما سوف يحدث لهم، وهو ما لم يحدث، وكل ما جرى أنهم أعادونا مرة أخرى إلى القسم القديم، وبعد أن دخلنا زنازيننا قال لي جاري "رأيتك تقف شجاعًا لم تتأثر بما جرى"، قلت له "لو شفت لتأثرت". ولتبدأ في اليوم التالي مرحلة جديدة من زمن الاعتقال.

أسعد طه
الجزء الأول من "باب ما وراء الشمس" اضغط هنا.
الجزء الثاني اضغط هنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد