العقليّة الجوانتانوميّة

الخلاف السياسي حول غلق غوانتانامو لن يحسم بسهولة فاختلاف الأيديولوجيات اختلاف عميق يطفو على السطح كلما دبّ خلاف والهوة بين الفكرين ساحقة، كلاهما يريد مصلحة الولايات المتحدة، أحدهما عن طريق الخوف من "العدوّ" والآخر عن طريق الخوف من اختلال مزيد من الموازين في مواجهة "العدوّ".

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/28 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/28 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش

من وعود الرئيس الأميركيّ باراك أوباما قبل ترشحه للانتخابات للمرة الأولى في 2008، هي غلق معتقل غوانتانامو في كوبا. خليج غوانتانامو هو أرض كوبيّة تمتلك أميركا بها قاعدة عسكريّة بحريّة بعقد مع كوبا. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أعلن بوش الثاني الحرب على الإرهاب لكنّه لم يرد لأسرى تلك الحرب أن يعاملوا كأسرى حروب، ولم يرد أن يحتجزوا في سجون أميركا أيضًا حتى لا يتمتعوا بحماية القوانين الأميركيّة، فكانت الإجابة غوانتانامو.

إعادة فتح قضيّة إغلاق معتقل خليج غوانتانامو الآن، في 2016، عام انتهاء فترتيّ رئاسة أوباما هو رغبة منه في تنفيذ وعد واضح انتُخب على أساسه، فهو بمثابة دين في رقبته لمن وثقوا به، لكنّه أيضًا يصب في مصلحة هيلاري كلينتون التي تعتمد في حملتها الانتخابيّة على التأكيد على استمرار سياسات أوباما التي أثبتت نجاحها، وعلى أنّه لا يجب انتخاب من سيبدأ طريقًا جديدًا -تقصد بيرني ساندرز- لأنّه سيعرقل التقدم الذي حققه أوباما. فوفاء أوباما بوعوده أو مجرد إظهار أنّ الأمر ليس بيده وإبراز الصعوبات التي يواجهها من الجمهوريين خاصة، لمن شأنه استقطاب تعاطف الديمقراطيين وعدم إمساك هذا الإخفاق -إن أخفق- ضده أو ضد كلينتون التي من الواضح أنّه يدعمها كمرشحة للديمقراطيين في مواجهة ساندرز. وأيًا كانت الأسباب، فإنني مع اعتراضي على انتهاكات حقوقيّة كثيرة من أوباما تجاه الشرق الأوسط إلا أنّني أتفق معه في هذا الموضوع.

وصل أول السجناء إلى غوانتانامو في 2002 ومع مرور الوقت، بلغ عدد المحتجزين هناك ثمانمائة متهم. كثير من هؤلاء اشترتهم أميركا من مخبرين في باكستان وغيرها؛ ولذا لا يمكن التأكد من ضلوعهم في أعمال إرهابيّة بادئ ذي بدء. سجناء غوانتانامو تراوحوا بين أبرياء ومحبين للقاعدة ومسجلين خطرين.

كانت الأخبار تتوالى من غوانتانامو عن مخالفات لحقوق الإنسان تصل إلى حد التعذيب أثناء التحقيقات، لكنّ العالم كان شبه أصم. وعلى الرغم من تصميم أوباما على غلق المكان إلا أنّ تورط السياسات الداخليّة والعالميّة عقّد الأمور. حين طرح أوباما خطته لغلق المعتقل على مجلس الشيوخ الأميركيّ والذي كانت غالبيته من الديمقراطيين من حزب أوباما نفسه، رفضوا بأغلبية ساحقة نقل أي من المتهمين إلى السجون الأميركيّة، كما رفضوا اعتماد الميزانيّة المطلوبة لإجراءات الغلق. وإن كان هذا موقف الديمقراطيين فإنّ حزب الجمهوريين كان وما زال أكثر صرامة، فهذا الحزب يميل إلى الشدة مع الخصوم، وإلى التصعيد وطرح الحرب كحل بديهيّ للخصومات، وبالتالي فهو يقدم الخوف من اهتزاز الأمن على حماية الحريات وإن دفع الأبرياء الضريبة من أعمارهم وصحتهم، فهم يريدون الاستقرار بأي ثمن.

لكنّ الواقع يخبرنا أنّ مثل هذا الفكر أخطر على الأمن والاستقرار بل وأخطر على السلام المحليّ والعالميّ، وهذه هي النقطة التي يؤكدها أوباما الآن. فاتّباع الحقائق لا مجرد النظريات يؤكد على أنّ غوانتانامو لم يجعل أميركا أكثر أمانًا أو استقرارًا، بل إنّها نقطة يستخدمها من يبررون الإرهاب ضد المدنيين الأميركيين لحشد مزيد من أتباعهم، كما لا يمكن ذكر غوانتانامو بدون ذكر سجن أبو غريب العراقيّ الذي تورط جنود أميركيون فيه في أبشع وأدنى درجات الفضائح والانتهاكات اللا آدميّة؛ لذا قال ديفيد راميرو، المدير التنفيذي لاتحاد الحريات المدنيّة الأميركيّة متحدثّا عن غوانتانامو، "لا توجد وسيلة لتنظيفه، لا يمكن بناء بيت جديد على هذه المخلفات السامة، إنّه مثل تشرنوبل، الطريق الوحيد هو الانسحاب".

وحين نسمع أميركيون يشجبون بل ويحاربون من أجل إغلاق ذلك المستنقع السام نشعر كعرب وكمسلمين أنّ هناك أمل وأنّ صورة أميركا فيها ملامح حانية، ثمّ نشاهد جيسون شافيتز عضو الكونغرس الأميركيّ المنتمي إلى الحزب الجمهوري وهو يتحدث بابتسامة فخر عن رحمة أميركا بالسجناء الذين أضربوا عن الطعام في غوانتانامو، وكيف أنّ الحكومة الأميركيّة وفرت لهم في أنابيب التغذيّة نكهات مختلفة كالشوكولاتة والفانيليا والفراولة! من لم يسمع الجزء الأول من جملته يظن أنّه يتحدث عن "آيس كريم" لأطفال في ساحة وليس عن تغذية بالإجبار في أنف سجين لم يجد وسيلة أخرى للاعتراض على سوء الأحوال. عقلية تشافيز هي عقليّة غوانتانوميّة بحتة، تعتبر السجن لمجرد الاشتباه وبسط الهيبة رحمة منها، عقليّة مسجونة في ظلمات الجهل والقسوة، عقلية لا تريد لأحد أن يختلف معها ولا تريد أن تنظر في تفاصيل الأمور ولا أن تتحرى الحقيقة، تلك العقليّة هي عقليّة إرهابيّة من الدرجة الأولى إذ إنّها مفجرة الفكر الإرهابي في العالم، نعم فالظالم المتجبر ضيّق الأفق هو أصل الإرهاب إذ إنّه لا يترك لمن يختلف معهم مجالًا للتفاهم. وفي النهاية، فإنّه من الخسة أن تعتقل يمنى ويسرى دون أن تتحمل مخاطر سياساتك على أرضك. هل تشك أميركا في قدرتها على تأمين هؤلاء النزلاء؟ كلام لا يعقل فإنّ في السجون الأميركيّة مجرمين عتاة ربما يكونون أشد خطرًا من أي ممن في غوانتانامو.

هل تخاف أميركا من أزمة رهائن على أرضها بغرض إطلاق سراح هؤلاء المتهمين؟ أعتقد أنّه لو كانت تلك النيّة موجودة لرأيناها حقيقة حتى وهم في كوبا.
الخلاف السياسي حول غلق غوانتانامو لن يحسم بسهولة فاختلاف الأيديولوجيات اختلاف عميق يطفو على السطح كلما دبّ خلاف والهوة بين الفكرين ساحقة، كلاهما يريد مصلحة الولايات المتحدة، أحدهما عن طريق الخوف من "العدوّ" والآخر عن طريق الخوف من اختلال مزيد من الموازين في مواجهة "العدوّ".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد