الإصلاح والتغيير: رؤى مختلفة في معالجة التخلف
هناك حاجة ماسة لتفكيك مفاهيم عدة كانت، وما زالت تشغل بال الباحثين والتيارات الفكرية والسياسية التي تشتغل في ميدان الثقافة والسياسة والاقتصاد والفن، من بين هذه المفاهيم تلك التي أسالت الكثير من المداد وساهمت في تشكيل الوعي لدى النخبة والمجتمع في العالم الإسلامي، ونقصد مفهومي "الإصلاح" و"التغيير".
فقد سيطرت على ذهنية المفكرين العرب، وعلى الخطاب العربي الحديث، مسألة التغيير والإصلاح في تجلياتها الإشكالية وأسئلتها وبقضاياها المعرفية والاجتماعية، حيث بلور العقل العربي هذه المفاهيم في سياق تراكمه النظري والمعرفي، خصوصًا مع بداية النهضة العربية بسبب الصدام العسكري والثقافي مع الغرب، سواء في شقيه الإمبريالي أو الحداثي.
فغالبا ما فهم من الإصلاح كونه "تصويب ما اعوجَّ في مسار، أو تآكل في قوام، وتجديد له يطابق الأصل الذي منه انحدر، أو إعادة ترميم المجتمع أو الثقافة أو سوى ذلك مما يمكن أن يدخل في دائرته"، وهو فهم يطابق ما ذهبت إليه أغلب التوجهات السلفية، التي لم تكن قضيتها سوى تحقيق الماضي في المستقبل على اعتبار أن المستقبل الأمثل ليس إلا ذلك النفي الحازم للحاضر في صورة استعادة لماض انزوى في زاوية النسيان.
في مقابل الإصلاح كان الند والغريم التقليدي له "أي الثورة" مناقضًا لما ذهب إليه رواد الإصلاح، فالثورة لا تقوم إلا بتدمير النظام القائم ونفي مرجعيته التي استند إليها، بذلك يهدف إلى الهجوم على هدف الإصلاح (النظام الأصل).
بعد تبيان الفرق بين المتضادين، لا بد من التذكير بوجود لحظات صدام بين التيار الليبرالي والتيار الإصلاحي إن شئنا التعبير عنه بالتيار المحافظ الذي يؤمن بضرورة إحياء التراث وإصلاح الأوضاع بما يجعلها تتصالح مع الماضي، هذه اللحظات بدأت مع توظيف الوعي السلفي للأفكار الحديثة والمناهج الجديدة لخدمة قضية إيديولوجية "النضال الوطني ضد الأجنبي" ليتحول بعد ذلك إلى حرب طاحنة ضد المرجعية الثقافية للغرب المستعمر، فكون علاقته مع الغرب بالانفتاح المعرفي عليه والعداء الأيدولوجي له، وهذا ما جعله يحارب كل فكرة مستوردة من منبع الأنوار "أوروبا الحديثة"، مما جعل التيار الذي يتبنى الثورة على الماضي بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية يستخدم كل الأسلحة الفكرية والمنهجية لمحاربة الإصلاح من الداخل ومناهضة الأفكار السلفية بشدة لم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلًا "انظر كتابات مهدي عامل وحسين مروة وحسن الأعظم وغيرهم"، مما ترك الباب مفتوحًا أمام كل الانتقادات موجهةً من كل الأطراف ومتنافسة في قوة الردود فيما بين التيارين، وهذا ما فوت الفرصة أمام صناعة تغيير حقيقي أو إصلاح جذري للأوضاع وترك الأمة في ضياع بسبب تغييب قيم العقلانية أو على الأقل استغلالها في نقيض لجورها وفي محاربة التيار السلفي.
ومما زاد الطينة بلة، هو تلك الإشكالية العويصة التي كتب فيها الكل بجميع تلويناتهم الثقافية والسياسية، وتوالت الاتهامات.. فتيار التغيير "أو العلمانيون الجدد" يتهمون الوعي السلفي بالهروب من مشاكل الحاضر إلى الماضي واتهامه أنه يعيش على الماضي ويتعيش منه (نسبة إلى الكثير من الفقهاء الذين تحولوا إلى يد للسلطان أو للرؤساء في الدول)، وبرغم أن مسألة الاهتمام بالتراث كانت بسبب حقيقتين، لن ينكرهما إلا جاحد:
الأولى ترجع إلى حالة الإخفاق والانسداد التي ولجتها البلاد العربية منذ مطلع العقد السابع من القرن العشرين، بعد تعرض مشروع النهضة والتقدم فيها إلى حالة انتكاسة فادحة أتت تعبر عنها الهزيمة العسكرية، والإخفاق الاقتصادي،الانسحاب الاجتماعي، والانهيار الثقافي.
والثانية حقيقة ثقافية مرتبطة بحالة تأجيل أسئلة الماضي وإخفاق الحاضر، مما وسَّع الهوة والفجوة بين قراءة التراث بموضوعية قصوة بسبب تراكم الإشكالات وتزايد التناقضات وتدخل الإمبريالية في تشتيت الصف الوطني، إما عبر خلق نقيض داخلي أو دعم انقلابات عسكرية تدعي الليبرالية أو القومية والاشتراكية.
إذن فمعركة تأويل التراث، ومحاولة امتلاكه والسيطرة عليه واحتكاره من حيث هو رأسمال رمزي بتعبير عبد الإله بلقزيز هي في جوهرها معركة تأويل الحاضر وامتلاكه واحتكاره (إنها معركة اجتماعية وسياسية من أجل تحقيق السيطرة المادية). إنها نوع من الحرب من أجل السيطرة (السيطرة بالسلطة العلمية أو الدينية أو السياسية أو العسكرية باستغلال التراث في كل تجلياته).
بعد التراث، وقع نفس الأمر للعلمانية، فسالت المداد كما سالت الدماء في كثير من الأقطار وحتى في مراكز العلم والثقافة (أي الجامعات)، فتارة هناك من يهاجهما بكونها عقيدة جديدة فحوَّل المعركة من المعرفة إلى الدين، وهناك من دافع عنها باعتبارها نقيضًا لكل الماضي بما فيه التراث وتاريخه وأعراف المجتمع، وغابت الحقيقة عنهم أجمعين، إلا من أدرك الحقيقة التاريخية "للعلمانية"، ولا بد هنا من تذكير بسيط وغاية الأهمية، وهو ما ذهب إليه عبد الإله بلقزيز في تعريف للعلمانية لتنبيه التيارين بمخاطر الوقوع في التضاد والصدام بدون فهم عميق لجوهر العلمانية، فهي في نظره كما تبلورت في أصولها النظرية وحقلها التاريخي عند الأوربيين، يرتفع بها من تصور الفريقين (الإسلامي – العلماني)، فلا تكون شيطانًا رجيمًا نتعوذ منه كما لا تكون رسولًا بعث فينا سياسيًّا لتحقيق رسالة الحداثة والتقدم بعد أن انسدت في وجهنا الآفاق.
الحاجة إلى طريق ثالث "إعادة البناء"
ورغم أنه منذ اللحظات الأولى لزمن النهضة مثل الأفغان وتلميذه محمد عبده لحظة تركيبية بامتياز بين الرافدين الأصالي والحداثي، حيث تجاوز الصراع العقيم بين الأزواج المفهومية (القديم/الحديث)، (العلم/الدين)، فعلى سبيل المثال كان محمد عبده أستاذ الزعيم الليبرالي لطفي السيد وأستاذ الزعيم السلفي رشيد رضا، فلماذا تم إقبار هذه التجربة الفريدة التي أصَّلت لفهم جديد يتجاوز التناقضات القديمة ويحل مكانها ماسماه بلقزيز بـ"إعادة البناء"، أو ما يطلق عليه حاليًا مجموعة من المثقفين المغاربة والأجانب بـ"الطريق الثالث أو الخط الثالث"، خصوصا بعد بروز قوة جديدة في أوروبا لا تكنُّ للإسلام والمسلمين العداء كما كان سابقًا، هذه القوى التي استطاعت أن تبرز بإسبانيا واليونان (بوديموس، تيريزا)، وقد ساهم كذلك إلى جانب هذه الظروف الدولية المفكر المغربي حسن أوريد في نحت هذا المفهوم وإطلاق المصالحة بين الحداثة والدين، من خلال استعادة الفكر المغربي الوطني وربطه بروح الحداثة.
فماذا نعني من "إعادة البناء" أو الخيار الثالث؟
بعد تجربة إخفاق الثورة في فهم ذاتها وتاريخها ومجتمعها الخاص (في العالم العربي والإسلامي) وبعد نضوج النزعة الواقعية والتاريخية لدى مجموعة من النخبة كانت في وقت سابق تؤمن بالثورة كأيدولوجيا مما حجب عنها الواقع، هذا النضوج قاد إلى نوع من إعادة النظر في مجتمعها وفكرها في موقع نسبي وتاريخ أفضل من موقع فكرة "الثورة"، هكذا تبلوت فكرة "إعادة البناء" من موقع المصالحة مع التاريخ والواقع، وبوصفها عملية تمثل منظورًا للتغيير كإمكانية واقعية وليس كتصورات مثالية وإمكانية ذهنية مجردة.
يعني كما قال العروي "أهمية الحركات الإصلاحية تكمن في فعاليتها الإصلاحية لا في عمقها الفكري
(ص 36) من كتابه مفهوم الحرية، وبالتالي الخيار الثالث -بالإضافة إلى تبينيه قيم العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان- فهو لا ينخرط في المعارك الهوياتية التي تفقد التضامن الشعبي لمن يهاجم الدين مثلا، أو الأعراف، أو بعض التقاليد في المجتمع، بل قدرته القوية في ربط الدين وهذه الثقافات بروحها بما لا يتناقض ومستلزمات حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والعقلانية، وفي إعطاء التفسير الحقيقي للعلمانية الذي تلخصه في كونه مجرد علاقة سياسية بين الدولة والمجتمع، أي بين السياسة كتدبير جماعي والثقافة كتصورات كلية، إنها تقنية لإضفاء النسبية على السياسة على حد تعبير المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، انظر كتابه "أسئلة الفكر العربي المعاصر".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.