بعد استعراض مجمل لمختلف النظريات المعاصرة للحكم الإسلامي، يمكن أن نخلص إلى عاملَيْنِ أساسيَّيْنِ في إشكالية الحكم الإسلامي في إطار الدولة الحديثة:
العامل الأول: متعلق بالفقه السياسي الإسلامي ذاته
فكما رأينا يشوب الفقه المتعلق بالسياسة ونظم الحكم في الإسلام عواران خطيران:
أولا: انحراف الفقه السياسي الإسلامي، تأثرا بالحوادث المزلزلة التي عصفت بالأمة في أواخر العصر الراشد، فقد بدأ الانحراف في سياسات الحكم وسياسات المال -كما ذكر سيد قطب- عن أصول الإسلام ومبادئ الشريعة منذ أن بدأ الملك العضوض على يد معاوية، وقد رأينا أن الدكتور عبدالرزاق السنهوري اعتبر نموذج الخلافة الذي ساد في أغلب فترات التاريخ الإسلامي شكلًا ناقصًا من الخلافة، والدكتور حاكم المطيري عد الخطاب السياسي الذي هيمن خلالها خطابًا سياسيًّا شرعيًّا مؤولًا منحرفًا. هذا الانحراف شمل جوانب عدة في الفقه الإسلامي السياسي.
مثل: المشروعية السياسية، والشورى، والحريات السياسية، وسياسة المال العام، ونحوها، وهو ما دفع الشيخ راشد الغنوشي إلى اعتبار هذا الانحراف سببًا مباشرًا في سقوط الحضارة الإسلامية، "وأنه من غير ثورة شاملة تطيح بهذه السموم التي تجري في دماء الأمة وتشل طاقتها عن الانطلاق، وتجهض انتفاضتها، فلا أمل في انطلاقة متينة قوية قاصدة قمينة بإنتاج الحضارة من جديد".
ثانيا: توقف الاجتهاد في الفقه الإسلامي في القرون الأخيرة، وهي القرون التي شهدت طفرة غير مسبوقة في الهياكل والبنى الاجتماعية للأمة، وفي جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية لها، فهذا الفقه "قد توقف نموه أو كاد منذ القرن الثامن الهجري، وذلك تبعا لركود المجتمع الإسلامي ذاته، حتى إذا قفزت الحياة قفزتها الواسعة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتجدد المجتمع الإسلامي طفرة، لم يكن الفقه الإسلامي على استعداد لمسايرة الحياة المتوثبة، وبذلك وجدت فجوة تاريخية ضخمة في تسلسل هذا الفقه ومسايرته للحياة الجديدة، وحاجتها التي تضاعفت أضعافًا كثيرة" ولذا كانت الدعوة إلى التجديد الفقهي، وتجاوز مرحلة الجمود هذه، كخطوة أساسية لإقامة الحكم الإسلامي قاسمًا مشتركًا بين أغلب من تناولناهم في هذه الدراسة.
العامل الثاني: متعلق بالتحديات التي فرضتها الدولة الحديثة على مفهوم الحكم الإسلامي
فقد ذكرنا أن الدولة الحديثة، هي وليدة شرعية للتجربة الغربية، وتطوراتها الاجتماعية والسياسية، وأنها نُقلت قسرا في تجربتنا الإسلامية، مقطوعة عن سياقها، مما أحدث هذه التناقضات التي دفعت البعض إلى اعتبار أن الحكم الإسلامي والدولة الحديثة غير متلائمين بالضرورة. هذه التحديات تشمل أمورا عدة، منها:
أ. نمط السلطة المركَّب والمُقسَّم والمؤسساتي، فبعكس نمط السلطة التقليدية، والتي كانت مركزية في شكلها، وأبوية في نمطها، مما أتاح تركز السلطات السياسية والدينية في يد الخليفة أو رأس الدولة الإسلامية، واعتباره ليس فقط المسؤول عن إقامة الحكم الإسلامي، بل الرمز الذي يتمثل فيه هذا الحكم، نتج عن الدولة الحديثة والتي تمتاز بمؤسساتها المنفصلة لممارسة السلطات المختلفة، وتعاظم الدور السياسي للشعب في إكساب المشروعية للنظام السياسي، وإسهامه بدرجات مختلفة في ممارسة السلطة السياسية، إشكالية "الحاكم، الأمة، العلماء" على نحو ما ذكرنا، وتحديد دور هذه الأطراف الثلاثة في نظام حكم يهدف إلى إقامة الدين وتطبيق الشريعة.
ب. الحدود والمواطنة، فالدولة الإمبراطورية بحدودها غير المحددة، والمتجاوزة للعرقيات والأقاليم، وبنمط مواطنتها الرعائي، كانت تقدم حلًّا لمشكلة تطابق حدود الدولة والأمة في الفكر السياسي الإسلامي، أما الدولة الحديثة بحدودها المرسومة الثابتة، وبنمط مواطنتها القائم على تساوي الحقوق والواجبات بين مختلف الأطياف العرقية والدينية داخل حدود الدولة، يثير أزمة حقيقية حول تضارب الولاءات والحقوق الواجبات، وكيف نحقق واجبات ومقتضيات الأمة الواحدة في ظل انقسامها إلى عشرات الوحدات السياسية، والتي تتشارك فيها الأغلبية المسلمة مع غيرها من الأقليات التي تتساوى معها -ولو نظريًّا- في حقوق وواجبات المواطنة، ولها الأولوية عن كل من يقطن خارج حدود هذه الدولة.
جـ. الإطار المرجعي الحاكم: فالدولة الحديثة كما ذكرنا ليست منزوعة القيمة كما يدَّعى، بل تستبطن البرادايم العلماني العقلاني، وهو ما يطبع نمط السيادة بها، والتي تتجسد في ذات الدولة، وفي أهدافها، والتي تتمثل في بناء مواطن فاعل ومنتج اقتصاديًّا، وبالتالي في ظل هذا الإطار كيف يمكن تأكيد سيادة متجاوزة للدولة ومؤسساتها، وهي سيادة الشريعة الإسلامية، وعدم الانحراف عنها، وكيف يمكن تحقيق الأهداف العليا للحكم الإسلامي، والمتمثلة في "حفظ الدين وسياسة الدنيا به".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.