عابرات القارات أم كاسرات الحواجز؟

ذكرتني كل هذه المواقف بوجوه أولئك الأطفال المهجرين داخليًّا في بلدي ليبيا.. أولئك الذين كبروا في مخيمات من الخشب والخيام والحديد، أتذكر أبناء العائلات التي ليس لها من زاد سوى مرتبها الشهري الذي أصبح يتوقف لأكثر من عام في بعض الأحيان في سبيل دفع أموال ومكافآت السفاحين.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/06 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/06 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش

خلال 2014 كانت لي رحلة قصيرة إلى تركيا علمتني بعض الأمور تناغما مع مقولة "كل سفرة تعلمك الحداقة" وفي خلال هذه الرحلة كانت لي مشاهدات تَعبُر إلى عقلي بسرعة كبيرة وأقارنها بالموجودات فتستقر الأفكار في مكانها المخصص لتعبر عن شعور وفكرة عن مشاهد وملاحظات!

تبدأ من ملاحظة أن التواصل مع الأتراك صعب لعدم معرفتهم الإنجليزية أو العربية ولعدم إتقاني للغة التركية، إلا أنني قد أدركت أمورًا واضحة المعالم يتوحد فيها الفهم دون صعوبة لأنه لا حاجة للغة بها، فهي أمور عابرة للقارات نفهمها بمجرد رؤيتها، لغة موحدة عابرة للقارات؛ لأن للغة كلمات ولهجات مختلفة سنحت لي الفرصة أن أتعرف على الكثير من اللهجات.

فقد تعرفت على كثير من الجنسيات سواء من الدول العربية المختلفة التي كانت برفقتي في المؤتمر الذي كنت أحضره، أو أصدقاء ومعارف أتراك أولئك الذين كانت لهجتهم مساعدة الآخرين، الخلق الحسن والابتسامة.

نعم هي أحدى لهجات تلك اللغة الموحدة لأن القلوب الصافية تستسيغها وتحبها وترغب أن تراها في كل مكان، مع منظومة القيم الحسنة والمعاملة الجيدة لا تأثير للغة ولا للجنس أو حتى الدين في الفهم، ولهذا يجب أن يكون الجميع سفراء الخلق الحسن في كل مكان يعرفون كيف يجعلونه لغتهم وأداة التعريف عنهم، ولهذا كان من أهم الأجزاء في الدين هو المعاملة، الابتسامة وحسن الحديث وحسن الرفقة.
ومن اللغات التي عرفتها هناك وحركت فيّ الكثير من المشاعر، واستفزت فيّ كل عصب وكل خلية دماغية وتأثيرها العابر للقارات، والذي لا يميز بين جنس أو دين أو لغة أو عرق أو أي شيء آخر، بالطبع أقصد هنا لغة الفقر.

لقد رأيت في شوارع وميادين إسطنبول ألما ما بعده ألم تعبر عنه أعين الأطفال السوريين.. هنا تلك الأعين التي أصابها الأرق من النوم على الطرق الصلبة في البرد القارص، وتلك الأجساد الهزيلة التي هربت من حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل بل ولا تعلم حتى الأطراف التي تشارك فيها..
تلك العيون التي تدمع القلوب الرحيمة لكنها لا تدمع أعين الحكام المسلمين، إنها تلك الأعين والأجساد التي يتلاعب بمصيرها العم سام والدب الروسي في لعبة حقيرة متكررة كميدان آخر لحرب باردة بعد ميدان أفغانستان، ولكن مهلًا.. هل نلوم دعاة الحرية هؤلاء أم أن هذا دينهم أصلًا، أم نلوم المسلمين في كل مكان ونلوم كل من لديه إحساس بالإنسانية؟

سكوتنا يقتلهم كل يوم ، فتكرار مد اليد لطلب العون يدمع القلب في المرات الأولى لإحساسها ببدء خروج الروح منها، فالروح تعني الكرامة، ولهذا أصبح هؤلاء بعد زمن مجرد أجساد تبحث عن الأكل تجر أرجلها هنا وأرجل هناك ويعطيها محسن هنا ومحسن هناك، يستغلون وسيتعبدون هناك، يتاجر بهم بعض المجرمين اللاإنسانيين ليرغموهم بالقوة للتسول أو العمل أو بيع المناديل.

نعم إنها لغة لم أفرق بها بين التركي أو الكردي أو السوري المهجر في شوارع إسطنبول حتى أصبحنا أحيانا نقول لأنفسنا هذا سوري فإذا به ينطق حروفًا لم نفهمها، فإذا بنا نقول إنه كردي أو غجري أو تركي..

وعموما لا فرق، فالملابس المهترئة ذاتها والعيون ذاتها والأجساد التي تتحرك دون روح هي ذاتها.
لن أنسى تلك الطفلة السورية التي وجدتها في سلالم محطة المترو وقد أرهقها النعاس وهي تبيع المناديل وبيدها الأخرى خبز صغير كان نصيبها لعيش ذلك اليوم، فاليوم عندهم ليس كمثل يومنا، كل يوم لديهم هو معركة للبقاء على قيد الحياة (انظروا للمفسدين لدينا كل يوم للتفكير بحيلة جديدة لتدمير الوطن وسرقة ماله)*.
لن أنسى الطفلين التركيين الذين وجدتهما ينظران من زجاج أحد الفنادق وعامل الفندق يعد المال والطفل ينادي أخته بكلمات لا أفهمها ويبتسم رغم الألم أظنه كان يقول عندما أكبر سيصبح لدي مال جيد مثل هذا لكي أنتِ وإخوتي.

لن أنسى أنني رأيت أطفالًا يبكون من الجوع في ساعات متأخرة من الليل ولا وجود لابن خطاب ينجدهم، عمر الحاكم العادل الذي قدم لعصره الكثير ولكنه أصبح اليوم مجرد قصة نستحضرها وقت انحطاطنا الفكري لنقول كنا خير أمة، فقط لنرضي أنفسنا قولًا.
فهكذا أصبح الكثيرون لا يعرفون من القدوة إلا صورتها أو اسمها، لا يتخذون مما يقولون أو ممن يرونهم قدوة عاملًا مشجعًّا على العمل أو التغيير.

ذكرتني كل هذه المواقف بوجوه أولئك الأطفال المهجرين داخليًّا في بلدي ليبيا.. أولئك الذين كبروا في مخيمات من الخشب والخيام والحديد، أتذكر أبناء العائلات التي ليس لها من زاد سوى مرتبها الشهري الذي أصبح يتوقف لأكثر من عام في بعض الأحيان في سبيل دفع أموال ومكافآت السفاحين.
هذه هي اللغة المشتركة بين الجميع في هذا العالم.. فيمكن فهم الظلم أو العدالة دون الحاجة لإتقان أي لغة أخرى.
فهي لغة تولد معنا ومع فطرتنا السليمة -ان بقيت كذلك- أما أولئك الذين ليس لهم سوى لغة القتل والذبح والظلم والانتقام، فقد استبدلوا لغة الأمن والسلام والعدل بلغة الظلم والسرقة والبهتان، وهاتان لغتان لا تجتمعان.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد