المصالحة التاريخية في عهد أردوغان

وإن كانت المعالجة الثقافية في الحالة التركية لها ما ليس للحالة الماليزية، إذ ترتكز في الأخيرة على معالجة الحالة العرقية المتنوعة المكونة للشعب الماليزي، واستثمار ذلك في مسيرة التحول والنمو معتمدا على تحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق المجتمعي ومن ثم الإستفادة من إمكانات وطاقات كل تلك الفئات في بناء الدولة الواحدة التي ينصهر الجميع في مؤسساتها ويشعر بالإنتماء اليها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/06 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/06 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش

تذهب أغلب الدراسات في تعاطيها مع الشأن التركي خلال عقد ونصف من الزمن إلى التركيز على الموضوع الاقتصادي كعامل رئيسي في نجاح حزب العدالة والتنمية في إحداث النهضة التركية وتحقيق نمو اقتصادي في زمن قصير، وهذا بلا شك عامل مهم جدا لكن مقومات النهوض وعوامل الاستقرار لها أسباب أخرى مرتبطة بتحقيق أكبر قدر ممكن من الانسجام مع الذات والتاريخ والإنسان.

ومسيرة التغيير لا بد أن تمر بمحطات ومنعطفات مهمة لا يتم اختزالها في الجانب الاقتصادي فقط على أهميته ومركزيته، ولا يمكن للنهضة أن تتحقق نتاج مجموعة من الأفكار الإقتصادية مهما كانت خلاقة وإبداعية بمعزل عن بيئة متنوعة أساسها ثقافي، وتلك التي تؤسس لكل مشاريع التطور والنهوض. ذلك أن الحالة المرضية التي تعانيها الدولة أو المجتمع ليست تعبيرا عن أزمة اقتصادية بحتة، إنما تلك الحالة هي نتاج معضلة شاملة تظهر ملامحها في الوجه الثقافي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي للدولة والمجتمع.

ويرى المفكر الجزائري والمصلح الاجتماعي مالك بم نبي أن أساس المشكلة حضاري، واعتبر أن (مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها).
هذا الفهم العميق لصيرورة التحول ومنطق التغيير أدركته النخبة الحاكمة في تركيا عشية عام 2002 بقيادة أردوغان، وانطلقت في إحداث التغيير الشامل في الدولة ابتداء بتصحيح مسارها، وأيقنت أن خطوات إلى الأمام لا بد أن تسبقها خطوة إلى الوراء. تصالح العثمانيون مع تاريخهم ولم يعلنوا البراءة من موروثاتهم، تحطمت القيود والشوائك التي أحاط بها مصطفى كمال أتاتورك حدود الجمهورية، وباتت أنقرة وإسطنبول وأزمير وقونيا، مسجد السلطان أحمد ومحمد الفاتح وكنيسة آيا صوفيا ومضيق البسفور، باتت تعج بالزائرين والسائحين، عربا وعجما، لم توصد الأبواب في وجه أحد، خرجت العربية عن صمتها وعاد الأتراك لطرق أبواب تعلمها، عادت إلى المساجد هيبتها وتم ترميم مبانيها ولمعت من جديد قبابها، وتكاثرت حتى تذكر كل من دخل ديارها بماضي البلاد وتاريخها وهويتها.
العبرة هنا ليست الإسهاب في سرد الأمثلة والشواهد، إنما بفهم منطق التغيير الذي بالتأكيد ليس من ضروراته الإنسلاخ من التاريخ وتنكر الذات إن لم يكن ذلك الموروث يحاكي مظاهر الحضارة الغربية المعاصرة، ولا يروق لصناعها إحياءه وتجديده، إنما من ضرورته -أي التغيير- الارتباط بالأصالة والاستفادة من موروث الأمة ومكوناتها التي إن تخلت عنه فقد أضاعت مخزونا هائلا من الذخيرة التاريخية والحضارية. وحتى في المجال الاقتصادي الذي هو ميدان السباق العالمي الأول ومؤشر التطور والتقدم والازدهار.

ففيه يقول ابن نبي إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هو الإنسان، ليس الإنسان كما يقول إنشاء بنك أو تشييد مصنع، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية.

إن محاولة إنهاء القطيعة بين حاضر تركيا وماضيها لم تكن هي الأولى في عهد حزب العدالة والتنمية، فقد كان انتخاب عدنان مندريس رئيسا للوزراء عام 1950 منعطفا هاما في تاريخ الجمهورية، إذ إنها كانت المرة الأولى التي يسعى فيها رئيس وزراء إلى استعادة بعض ملامح الدول التي ألغيت مع الإعلان عن تأسيس الجمهورية حيث سمح عدنان مندريس بتدريس اللغة العربية وقراءة القرآن وتدريسه وإصدار الكتب والمجلات التي تتحدث عن الإسلام وأعاد الروح الى المساجد وانشا المعاهد لتدريس الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين، ووقف ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وقام بطر السفير الإسرائيلي، لكن الجيش والمؤسسة العسكرية انقلبت على مندريس في 27/5/1950 وقامت بإعدامه في 17/9/1961.

لم يكن عدنان مندريس يمثل حزبا إسلاميا لكن أعدم بسسبب اتهامه بالتراجع عن العلمانية، رغم أن تلك الفترة كانت فيها أنقرة منسجمة في سياستها مع الغرب وشهدت العلاقات مع الدول العربية كثيرا من محطات الشد والشحن، سوريا والعراق تحديدا، خاصة عندما حشدت تركيا قواتها العسكرية على حدود سوريا عام 1957 ودعت إلى تدخل عسكري في العراق عام 1958 لإعادة الملكية.

وصفت مرحلة الرئيس أوزال بأنها عودة إلى المرحلة التي أرادها عدنان مندريس، لكن حجم الأنشطة الدينية ومساحات الحريات التي حاز عليها الإسلاميون في أوزال تفوق بكثير تلك التي تم إعدام عدنان مندريس من أجلها، كما كانت الإصلاحات والسياسيات الإنفتاحية التي يقبل بها الجيش أشمل بكثير، لكن ظروف دولية توفرت في تلك المرحلة هيأت لإنجاز وتنفيذ مثل تلك السياسات.

بعضها مرتبط بالحرب على أفغانستان ورغبة الولايات المتحدة الأميركية بتشجيع الدول على تغذية المشاعر الدينية في البلاد الإسلامية ضد الروس، وأخرى مرتبطة بشعور الجيش بخطر الحركة اليسارية التي رأى فيها مخططا روسيا ليس أكثر، فرأى في الأنشطة الدينية نوع من أنواع المواجهة مع الحركة اليسارية، فكانت السياسات في عهد أوزال تتم برضى الجيش والعسكر في ظل ظروف دولية مواتية لإحداث التغيير.

إضافة إلى حرص المؤسسة العسكرية آنذاك أن الأنشطة الدينية تكون تحت إطار الدولة الرسمي ونظامها العلماني دون السماح بوجود أي مبرر لظهور أيا من حركات الإسلام السياسي. بذلك اختلفت سياسة حزب العدالة والتنمية التصالحية عن مرحلة أوزال بأنها تمت بإرادة سياسية خالصة دون أي حسابات داخلية مرتبطة بالمؤسسة العسكرية أو خاضعة لميزان وتقييمات الجيش.
المقاربة بين المراحل الثلاث (مندريس، أوزال، أردوغان) تبين كم هي شاقة عميلة التصالح بين حاضر الدولة مع موروثاتها التي تبدو نوعا من الانقضاض على بعض مخلفات كمال أتاتورك.

كثيرا ما ينساق الحديث عن تجربة تركيا إلى الحديث عن تجربة ماليزيا باعتبارهما دولتين إسلاميتين حققتا نهضة ونموا في محيط الدول الإسلامية الغارق في الظلام والتخلف السياسي والإقتصادي ويعاني مأزقا ثقافيا وإشكالا فكريا لا ينسجم مع تاريخ الأمة وماضيها الحضاري والإنساني. وفي حالة ماليزيا يقدم النجاح أيضا كنجاح اقتصادي باهر ويعزى ذلك إلى التحول الاقتصادي الذي أحدثه مهاتير محمد صانع نهضة ماليزيا، لكن الطبيب أفنى وقتا طويلا في إحداث تغيير ثقافي أسس من خلاله لكل أعمدة وأركان النهضة الماليزية، والجانب الاقتصادي واحد منها لكنه ليس أساسا لها لا بل هو نتاج لها أصلا، من أهمها إيجاد بيئة اجتماعية مستقرة رغم التنوع العرقي ما بين المالاوي والصيني والهندي، ربط من خلالها بذكاء حقوق الفرد وواجباته بالانتماء للدولة وليس للعرق أو الجنس، وجاء ذلك من خلال منظومة استيعابية شاملة لكل مكونات وأطياف الشعب الماليزي.

وإن كانت المعالجة الثقافية في الحالة التركية لها ما ليس للحالة الماليزية، إذ ترتكز في الأخيرة على معالجة الحالة العرقية المتنوعة المكونة للشعب الماليزي، واستثمار ذلك في مسيرة التحول والنمو معتمدا على تحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق المجتمعي ومن ثم الإستفادة من إمكانات وطاقات كل تلك الفئات في بناء الدولة الواحدة التي ينصهر الجميع في مؤسساتها ويشعر بالإنتماء اليها.

وقد نجحت التجربة الماليزية في ذلك رغم أنه لم يتوفر لها ذلك العمق التاريخي الكبير الذي يخدم مسيرة التقدم في الحالة التركية، وفيها ينصب الجهد في تسخير ذلك الموروث التاريخي والحضاري لخدمة مسار النهضة، مرتكزا على تصالح الشعب التركي مع موروثه الحضاري والثقافي، ذلك أن لكل تجربة خاصيتها ومشكلاتها وطرائق علاجها، وقد أوضح ذلك مالك بن نبي حين أشار إلى أن الإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة بل من مشاكل متنوعة تبعا لتنوع مراحل التاريخ.

في جنوب إفريقيا أيضا كدولة اعتصرت مرارة التحول ثمة عوامل ساهمت في اجتياز تلك المرحلة على صعوبتها ومن أهم تلك العوامل ترسيخ فكرة الدولة الواحدة متعددة الأعراق وكذلك تعميق ثقافة قبول الآخر في المجتمع، وقد أتى ذلك من خلال المقدرة على تجاوز مرحلة طاحنة من التمييز العنصري الذي أوجد شعبا مشتتا ومحتقنا بفعل ممارسات سلطوية عنصرية، ولم يكن بقدور مانديلا سوى تجاوز تلك الحقبة السوداء من خلال التوجه نحو إرساء ثقافة تصالحية ساهمت في هضم التنوع العرقي في البلاد كما ساهمت في تخطي الفارق الطبقي في المجتمع.
هذه شواهد حديثة تعطي صورة واضحة عن منطق التغيير والمراحل التي يجب أن يتخطاها، الأرضية الحقيقة المهيأة له إرادة سياسية تتجه نحو إيجاد بيئة اجتماعية قابلة لمنطوق التحول والتغيير، البنية التحية له هو الحقل الثقافي الذي يتمسك بالهوية الوطنية من جانب ويؤسس للإنسجام الاجتماعي من جانب آخر، ثم تبدو ذلك التحول في ظواهر كثيرة أبرزها الإنتاج العلمي والازدهار الاقتصادي والانفتاح المعرفي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد