النموذج المثالي الراديكالي للدولة الإسلامية 7/8

لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده.. والحكم بما أنزل -دون سواه- في كل شئون الحياة، وبالتالي فإن وجود الحياة الإسلامية والأمة الإسلامية، بل ووجود "الإسلام" ذاته قد توقف منذ فترة طويلة

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/02 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/02 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش

لم يكن من الممكن ونحن نتعرض لإشكالية الحكم الإسلامي في الدولة الحديثة عدم التعرض لمفهوم "الحاكمية"، الذي يعد أحد أكثر المصطلحات إشكالية في هذا المجال، وهو المصطلح الذي صكه المفكر الإسلامي الباكستاني أبو الأعلى المودودي، ويعتبر سيد قطب هو أهم من نظَّر له في الفكر السياسي الإسلامي. وهذا المصطلح عند المودودي وقطب يمكن إيجازه بشكل عام في نقاط خمسة:
أولا: في نظام الحكم الإسلامي، الله هو الحاكم الحقيقي، فليس لأحد في الدولة الإسلامية -فردا كان أم أسرة أم حزبا أم طبقة- نصيب من الحاكمية، فما من أحد له شيء من أمر التشريع إلا الله، وأن حق الحكم والقضاء ليس لأحد إلا الله، وأن الله وحده له حق إصدار الأحكام، فالنظرية السياسية في الإسلام تقوم على نزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر، منفردين أو مجتمعين، لأنها مما يختص به الله وحده.

ثانيا: أن نظام الحكم في الإسلام مرتبط بالعقيدة، فالحاكمية ترتبط بتحقيق الألوهية لله وحده، فـ"الله سبحانه يتولى الحاكمية في حياة البشر، عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم، وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر. وفي النظام الإسلامي، لا يشارك الله سبحانه أحد، لا في مشيئته وقدره، ولا في منهجه وشريعته.. وإلا فهو الشرك والكفر.. لأن هذا معناه رفض ألوهية الله، وادعاء خصائص الألوهية في الوقت ذاته. فـ"قضية الحاكمية والشريعة في هذا الدين هي قضية عقيدة ودين قبل أن تكون مسألة حكم ونظام".

ثالثا: أن مفهوم الشريعة ومدلول "الحاكمية" لا ينحصر فقط في مسائل التشريع والأحكام القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظامه، بل إنها تتسع لتشمل كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، من الاعتقاد والتصور، إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى التشريعات القانونية، إلى قواعد الأخلاق والسلوك، بل والمعرفة بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة "وفي هذا كله، لا بد من التلقي عن الله ، كالتلقي في الأحكام الشرعية -بمدلولها الضيق المتداول- سواء بسواء".

رابعا: أن الحاكمية بمدلولها الشامل ترتبط بحقائق الوجود والكون، فعلى نهج الفلسفة المثالية، التي ترى للموجودات كنهاً يجاوز ما ندركه بحواسنا القاصرة، وأنها ترتبط بحياة وقوانين تجعل من الكون كله وحدة واحدة، يسود جزئياته كلها ترابط وانسجام، نظَّر سيد قطب لتفرد المنهج الإسلامي، فهو المنهج الوحيد الذي يقوم نظام الحياة البشرية فيه على أساس من التفسير الشامل للوجود، وهو الذي يتسق مع نظام الكون كله، "فلا ينفرد الإنسان بمنهج لا يتناسق مع ذلك النظام، على حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون.. والتناسق بين منهج حياة الإنسان ومنهج حياة الكون هو وحده الذي يكفل للإنسان التعاون مع القوى الكونية الهائلة، بدلا من التصادم معها، وهو حين يصطدم معها يتمزق وينسحق"، ولهذا فإن البشرية اليوم تعيش حياة الشقاء والحيرة والاضطراب.

وختاما: أنه "لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده.. والحكم بما أنزل -دون سواه- في كل شئون الحياة، وبالتالي فإن وجود الحياة الإسلامية والأمة الإسلامية، بل ووجود "الإسلام" ذاته قد توقف منذ فترة طويلة، وهي الحقيقة التي قد تحدث صدمة وذعر وخيبة أمل للكثيرين ممن يزالون يحبون أن يكونوا "مسلمين". وذلك لأن المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة تدخل في إطار المجتمع الجاهلي، فهي تعطي أخص خصائص الأولوهية -وهي الحاكمية- لغير الله، فتتلقى من حاكمية غير الله نظامها، وشرائعها وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريبا.

إن الإشكالية التي تكمن في هذه النظرية أنها -بالرغم من جاذبيتها وإحكام منطقها البادي- تتسم بوجود فجوات خطيرة في بنيانها، كما أنها تعتمد على ثنائيات حادة مثل الله/البشر، الإسلام/الجاهلية. فأولا: بخلاف النظريات والنماذج السالفة، لا تحدد هذه النظرية من في مثلث "الحاكم -الأمة- العلماء" هو المسؤول عن تفسير الشرع وإقامة الدين، فالمودودي وسيد قطب كلاهما يؤكد على رفضهما المفهوم الثيوقراطي للحكومة الإلهية، لكن بينما المودودي يشير إلى قوله تعالى "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض.." ليدلل على أن الخلافة عمومية للمؤمنين، لا ينفرد بها فرد أو أسرة أو طبقة، أو ما أسماه "الثيوقراطية الديمقراطية"، فإن سيد قطب يبدو غامضا بهذا الشأن، بل ويعتبر السؤال عن تفاصيل النظام الإسلامي الذي يدعو إليه، من قبيل الإحراج الذي تضغط به الجاهلية على أعصاب الدعاة المخلصين، ومن قبيل محاولاتها دفعهم لتعجل الخطوات، والتي يجب أن تركز الآن على خطوة دعوة هؤلاء إلى التسليم لحاكمية الله، مشيرا إلى أنه ليس ما ينقصنا الآن هو الاجتهاد والبحوث الفقهية على الأصول الحديثة، وأن النظرية تتبلور أثناء الحركة، وأن ملامح النظام تتحدد أثناء الممارسة، داعيا أصحاب الدعوة ألا يستجيبوا لهذه المناورة، وألا يستخفنهم الذين لا يوقنون.

ثانيا: بشأن الثنائيات الحادة التي تحتويها هذه النظرية، مثل الله/البشر، الإسلام/الجاهلية، فإنها تقوم على مغالطات منطقية، فسيد قطب يقر بأن الشريعة تتمثل في مبادئ كلية وقواعد عامة -خصوصا فيما يخص المعاملات- وأنها ترسم إطارا واسعا شاملا يتسع للتطور الذي يطرأ على حياة البشر، وأن مهمة الفقه -الذي هو من صنع البشر- أن يفهم ويفسر ويجتهد في تطبيق الشريعة لتلبية حاجات مجتمعهم الخاصة. وهذا يكشف مغالطة هذه الثنائيات الحادة، فالشريعة تتجلى في الأحكام الفقهية التي تبدعها قرائح الفقهاء، وهو جهد بشري غير معصوم، فإذا قيل إن المهم هو أن هذا الاجتهاد البشري يتم في إطار القواعد والمبادئ المؤصلة إلهيا، قيل أن الرجوع إلى مبادئ وقواعد الشريعة لن يعطي قراءة واحدة أو حتى قراءات متقاربة، فمثلا مبدأ "الشورى" الذي هو مبدأ إسلامي أساسي في نظام الحكم، له قراءات متباينة، فالبعض يقدم قراءة سلطوية تجعل الشورى معلمة وليست ملزمة، والبعض يقدم قراءة نخبوية تجعل الشورى محصورة فقط في أهل الحل والعقد من وجوه القوم والعلماء وأمراء الجند ونحوهم، والبعض يقدم قراءة ديمقراطية ويمد مظلة الشورى لكل من يعنيه الأمر من عوام الناس، وأنها ملزمة وليست معلمة، وكل قراءة ينبني عليها نظام مختلف كما رأينا سابقا، فأي من هؤلاء تعكس قراءته التصور الإسلامي الذي ما عاداه يمثل الجاهلية.

فبما أن الشريعة تتمثل في مبادئ عامة كلية فيما يخص النظم الحياتية، تكون مقارنتها بالأيديولوجيات والنظم السياسية والاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية غير متجانس، ولأن تنزيل الشريعة على الواقع هو جهد بشري غير معصوم، والرجوع إلى الشريعة لا يعطي تصورا واحدا أو حتى تصورات متقاربة، بدليل عشرات المذاهب العقائدية والمدارس الفقهية التي عرفها الإسلام طوال تاريخه، وتنوع الأيديولوجيات بين الحركات والتيارات الإسلامية المعاصرة، فإن الزعم أن هناك نظاما حياتيًّا إسلاميًّا بعينه، تفصيليًّا، معصومًا، وبدون إقامته يصير المجتمع جاهليًّا وليس إسلاميًّا هو زعم خاطئ. علاوة على ذلك، فإن محاولة إقامة نموذج حكم إسلامي إنطلاقا من هذه الرؤية الأحادية والكلية -التي تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأخلاقية والعلمية- لمصطلح الحاكمية والمدعومة بمنطق الفلسفة المثالية قد يسفر عن نظام شمولي، كما وفرت فلسفة "هيغل" المثالية المناخ لازدهار النظم الفاشية والنازية في التجربة الغربية.

علامات:
تحميل المزيد