لم تكن 25 يناير قط وليدة يومها.. 25 يناير وليدة عشرة أعوام قبلها كانت مصر خلاها أشبه بخرابة اجتماعية وسياسية واقتصادية.. اجتماعياً تفاوت شديد بين طبقات المجتمع، الفقير فقره مضجع والغني ثراؤه فاحش والطبقة الوسطى تندثر.. سياسياً حزب واحد يحكم للأبد بأساليب البلطجة والتزوير وشكل حزبين لنفسه ليقوما بدور المعارضة الكرتونية كي تبدو مصر وكأن بها حراكا سياسيا ونظاما ديمقراطيا..
اقتصادياً كان هناك معدل للنمو لكن دون تنمية، والفرق شاسع بينهما حيث كان النمو لمصالح رجال أعمال سُخرَت لهم موارد الدولة كي ينالوا منها ما يريدون، لكن لم يوجد أي نوع من التنمية التي تصب في صالح الشعب، فمع نمو الأعمال لرجالها كان هناك أيضاً نمو في معدلات الفقر والبطالة.. ولهذا لم يعد هناك مفر سوى الثورة.. التي أصبحت خبراً في 2011 لمبتدأ كان في 2008 عندما حيكت ودبرت فكرة توريث الخرابة لأحد أبناء من خربها.
لن أتناول هنا تفاصيل ما حدث بعد الثورة فهناك قناعات مختلفة لكل فئة أو طائفة سياسية، ولن ينصف طرف على الآخر سوى التاريخ.. فالآن كلُّ يحمل إخفاقات الثورة للآخر.. هنا سأتحدث عن الفعل الثوري نفسه الأصدق والأهم.
يحدثوننا عن مؤامرة!! نعم 25 يناير مؤامرة.. كل حدث ثوري في التاريخ كان مؤامرة ضد السلطة، يحيكها في الخفاء طليعة ثورية لإحداث حالة الانفجار الشعبي عندما تنزل الجماهير للميادين، وبعدها تصبح طليعة الثورة قادتها والمتحدثين باسمها.. لكن ما حدث أن الثورة المصرية فشلت في إيجاد قيادة لها.
عندما تحكم على حدث ما تابعته عن بعد، فحتماً سيكون حكمك خاطئا، لأن التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي تشكل الحدث هي التي تشكل الرؤية والفهم الخاص به من جميع جنباته، وفي الوقت ذاته تظن أن حكمك هو الأصوب ومن دونك هم المخطئون.. لكن عندما تكون قريبا من الحدث وتجعلك الظروف جزءا من تفاصيله تستطيع أن تحكم على الحدث بصورة موضوعية وبالتالي تكون أقرب للحقيقة.. الحقيقة التي لا يمكن لأحد احتكارها لنفسه مهما بلغ قربه منها.
الحقيقة المجردة في 25 يناير أنها ثورة شعبية وبعيدة تماماً عن أي شكل من أشكال الانقلابات، حتى عندما حكم المجلس العسكري، حكم بناءً على فراغ السلطة من رأسها وهذا أمر طبيعي طالما كان وفقاً لإرادة الشعب.. الشعب الذي قام بثورة وجعلت من تنحي مبارك أمرا حتميا.. فالحقيقة المجردة هنا أيضاً أن مبارك تنحى بإرادة الثورة وليس بإرادته، فمبارك لم يصحُ من نومه يوم 11 فبراير وقرر أن يعفي نفسه من مهمته الشاقة التي استمرت ثلاثين عاماً وقرر أن يستريح في شرم الشيخ وهو على مشارف الثمانين من عمره.
يعلم كل من كان قريبا من صناعة يوم 25 يناير وجزءا من تفاصيل هذا اليوم أنها لم تكن مؤامرة خارجية ولم تكن هناك تمويلات، فتعداد النواة الأولى لهذا الحدث لم يتعد خمسمائة فرد بعضهم من المبدعين سواء كانوا كتابا أو فنانين وبعض الصحفيين وغالبيتهم من شباب أبناء الطبقة الوسطى.. كل هدف مظاهرات 25 يناير أن تستمر بضع ساعات في الشارع.. لكن القدر عندما يقول كلمته كل شيء يتغير.. المظاهرات وضحت للشعب أن نظام مبارك حقاً نظام هش وليس كما جعل لنفسه هالة من القوة الوهمية وهذا جعل الشباب يقوم بتجربة ما حدث في تونس قبلها بأسبوعين، ودعوا الناس للنزول يوم الجمعة 28 يناير فنزلوا دون خوف.
في رأي كل من كان جزءاً من الحدث الثوري الكبير؛ أن يوم 28 يناير هو الانفجار الثوري الذي استجاب فيه الشعب لدعوات الثورة وثار، إذاً من الذي تآمر ومول؟
كل ما قيل ويقال عن اتهام شباب يناير بالمتآمرين والممولين مجرد محاولة من أعداء يناير ومن قامت عليهم الثورة لتلويث سمعتها.. فهناك نظرية تقول إذا كان لك خصم قوي ولا تستطيع مواجهته فحاول تلويثه عن بعد واجعله يفقد قوته في الدفاع عن نفسه، حتى يأتيك ضعيفاً عندما تواجهه.. وبالمناسبة هذا ما حدث في جميع ثورات العالم.. نظام مبارك ورجاله ومنتفعو حكمه لم يجدوا ما يدافعون به عن أنفسهم وبالتالي قرروا تلويث الثورة عبر شبابها.. وأيضاً هناك حالة من الغيرة من أجيال سابقة تجاه جيل شباب الثورة، وهذه الغيرة جاءت لشعور تلك الأجيال بأنها عاشت خانعة لإرادة النظام مقارنة بما فعله هذا الجيل، وبالتالي استجابوا وروجوا لفكرة تلويث جيل الثورة لتبرئة ساحتهم من الخنوع للنظام.
25 يناير ثورة لم تنته بعد، فجميع كتب التاريخ تدلنا على أن متوسط العمر الثوري ثمانية أعوام، مضى على يناير خمسة أعوام ويتبقى لها ثلاثة، وهذا لأن خصم الثورة ليس الأشخاص بل الأفكار، والفكر يحتاج وقتاً لتغييره، ففي كل الثورات أيضاً كانت اختيارات الناس لمن يحكوا بعد الثورة خيارات خاطئة، وعاما بعد عام وبعد تغيير الوعي والفكر اختاروا من هم على جدارة بالحكم واستطاعوا تحقيق أهداف ثورتهم.
في النهاية أقول إن الثورة هي أفضل حدث إنساني في تاريخ مصر الحديث مهما حاولوا تشويهها.. وسيظل شباب هذا الجيل هم أفضل من سكنوا مصر في التاريخ الحديث.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.