"شعب يعشق جلاده" كان أبي يردد تلك العبارة كثيرا، كلما احتدمت الأمور السياسية وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءا في البلاد، ولم يجد أي ردة فعل من الشعب، والصمت سيد الموقف..
لم أكن أوافقه الرأي بل كنت أرى فقط أنه شعب "يخاف جلاده"، يشعرون بالحنق نعم لكنهم اعتادوا "المشي جنب الحيط"، فما داموا يبيتون ليلتهم في بيوتهم، فلا بأس وليؤثروا الصمت.
جاءت ثورة ينايروقلبت الموازين، لتؤكد لي ولأبي خطأ ما اعتقدنا، فلا هو شعب يعشق ولا حتى يخاف جلاده، ولكن مع مرور الأيام وعقب 30 يونيو عاد الوضع على ما هو عليه، وبت أشعر أن عبارة والدي حقيقة وكأنها فصلت خصيصا لوصف هذا الشعب.
شكرا علي الخيمة يا سيادة الرئيس!
في طرق عودتي للمنزل في إحدى ليالي الشتاء الباردة ومع هطول الأمطار بغزارة، وقع نظري على إحدى الخيام المنصوبة تحت إحدى الكباري في شوارع القاهرة لتحتمي بها أسرة مصرية من المطر.
ذهلت من الموقف، لم يكن ذهولي من رؤية أسرة كاملة بلا مأوى مشردة في الشارع، فمثل تلك المشاهد اعتدنا رؤيتها في "أم الدنيا"، بل ذهلت من تلك الصورة التي تتوسط الخمية وعبارات الحب التي ملأت الجدران حولها، صورة "السيسي" مع عبارات مثل "بنحبك يا سيسي"!
دارت تلك الأسئلة في رأسي لماذا يضعون الصورة، وعلى ماذا الحب؟ ماذا كانوا سيفعلون لو وفر لهم بيتاً وليس خيمة في العراء؟
وكأن لسان حال رب الأسرة يقول شكراً يا سيسي على التشريد، على المبيت أنا وزوجتي وأولادي في الشارع..!
المشكلة فينا!
لم يكن ذلك الموقف الوحيد الذي أكد لي صحة العبارة، ففي الميكروباص في طريقي إلى القاهرة، بدأ الركاب في "هريهم" السياسي كل يدلي برأيه وكأنه خبير سياسي محنك، وبعد نقاش طويل تناول فيه خبراء الميكروباص السياسيون شئون البلاد، وبعد وصلة من الشكاوى عبروا فيها عن حياة الفقر، والقهر، والذل التي يعيشونها، قال أحدهم أتدرون يا سادة.. المشكلة ليست في مبارك، ولا في السيسي، ولا في أي رئيس، إنما المشكلة فينا نحن "إحنا الوحشين" وافقه الركاب جميعاً الرأي قائلين في صوت واحد واثق "عندك حق".
إذاً هم يرون أن المشكلة ليست في من سرقهم، ونهب أموالهم، وقتلهم، ذلك الرجل أمامي لا يرى أن المشكلة فيمن جعله يأكل قطعة الخبز تلك "حاف"، ذاك الآخر بجانبه لا يرى أن المشكلة فيمن كان السبب في جعله يرتدي تلك البدلة "المقطعة"، المشكلة ليست فيمن جعلهم يعيشون حياة غير آدمية لا تليق حتى بالحيوانات بسرقته لأموالهم، أموال الشعب.
أتدرون نعم المشكلة فيهم هم، المشكلة فيمن رضي بالذل، والفقر، والقهر، المشكلة فيمن رضي بالعيش تحت خط الفقر، المشكلة فيمن رضي بالعيش في خيمة في العراء، المشكلة في من مرتبه لا يكفيه ليسد أدنى حاجاته وينفد منه قبل انتهاء الشهر، المشكلة فعلاً فيمن سكت عن ذلك كله وقال آمين.
يا باشا أبوس إيدك!
"سيبه يا باشا أبوس إيدك" كان ذاك الصوت يردد باستكانة تلك العبارة في إحدى شوارع المحروسة، وهو صوت لامراة قام أمين الشرطة بمعاكستها فاعترض خطيبها، الأمر الذي أزعج أمين الشرطة فانهال عليه ضرباً بطريقة وحشية، وأخذ هو الآخر يقبل يد أمين الشرطة لتركه!
كنت أحسب أن الفرد منا حين يوضع في موقف ما وتكون نهايته "أنا كده كده ميت"، فيتصرف بشجاعة، ليموت موتة الأسود بدلاً من أن ينقلب إلى نعامة، لكن صوابع يدك العشرة لا تشبه بعضها.
يعاكس خطيبته، ويعتدي على عرضه، ويهينه، ويذله، فيقبل يده!
مثل تلك المواقف، الظلم والسكوت عن الظلم وقبول المظلوم بالظلم الواقع عليه – عفواً فهو لا يرى نفسه مظلوماً بل يرى أنه يستحق ذلك – أراها يومياً في شوارع ذلك البلد الظالم أهله.
ولكن على الفور أتذكر عبارة والدي "شعب يعشق جلاده"، فلم أعد أتعجب لأي شيء، فصدق والدي، وصدق المثل حين قال "الطبع غلاب".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.