انقلاب ميليشيات الحوثيين وحليفها المخلوع صالح ليست بالحجم الذي يجعلها تصمد أمام تحالف عربي، مكون من عشر دول عربية، ومقاومة واسعة ضدها في عموم أرجاء اليمن، بحيث تبقى متماسكة حتى اللحظة الراهنة، ويظل الوضع العسكري والسياسي بينها وبين التحالف والمقاومة مطاطياً بين كر وفر، بل مازال يراوح منطقة وسطى، بين النصر والهزيمة.
وهذا يدفعنا للحديث عن العوامل التي أخرت إسقاط الانقلاب ومدت في عمره، يأتي في مقدمتها رؤية اليمنيين الشائكة لأهداف التحالف المعلنة لعلمياته العسكرية، التي تلخصت في إعادة الشرعية والاستقرار لليمن.
فإذا كانت الحرب صراع مادي وأخلاقي، والقوى الأخلاقية قد توازن عدم تكافؤ القوى المادية، أي أنه ليس كافياً خوض الحرب بالوسائل المادية، بل ثمة ضرورة لأن تشن الحرب من أجل قضايا عادلة ذات صدقية عالية، هي بالنسبة للتحالف عودة الشرعية ممثلة بالرئيس هادي، والحفاظ على استقرار اليمن، والعودة به للمسار السياسي الانتقالي المستند إلى المبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
ومع الإيمان المطلق لكثير من اليمنيين، بعدالة الأهداف المعلنة للتحالف العربي، إلا أنه ينتابهم ريبة وتوجس، فيما يتعلق بشرعية هادي، التي لا يتمسك بها جلّ اليمنيين، إلا هروباً من تأييد الانقلاب، فلقد فقد هادي الثقة في نظر نسبة كبيرة من الشارع اليمني، مذ أن صمت أمام اجتياح الميليشيات للمحافظات وسيطرتها على المعسكرات، وتقاعس عن أداء واجبه الوطني، بل إنه وفر الغطاء السياسي لتمدد الميليشيات، فحين استولت على عمران في يوليو 2014م، زارها الرئيس هادي معلناً أنها عادت لحضن الدولة، وبعد يومين من سقوط صنعاء بيد الميليشيات في 21 سبتمبر 2014م، أطل علينا معلناً أن صنعاء لم تسقط.
فتعامل هادي مع أحداث الوطن باستخفاف وغباء صدم كثيراً من الوطنيين، وأجبرهم على السلبية، لاسيما قيادات عسكرية ووجاهات اجتماعية في الشمال والجنوب، كان بإمكانها أن تلعب أدواراً في رجحان كفة المقاومة، إلا أن خشيتها من خذلان هادي لها، إن لم يكن تآمره عليها، دفعها للانضمام للفئة الصامتة.
يضاف لذلك أن القوى العسكرية والقبلية، التي تملك دراية كاملة بالخريطة اليمنية، ونقاط القوة والضعف لميليشيات الانقلاب، ولديها من الحاضنة الشعبية ما يمكنها من حسم المعركة في وقت قصير، يظهرها هادي ومساعدوه بأنها ميليشيات تشبه ميليشيات الانقلاب، إذا ما دعمت لمقاومته، وفي ما يتصل باستقرار اليمن يرى اليمنيون أنه غضّ الطرف عن ذلك كثيراً، حتى أكملت الميليشيات الانقلاب، وغدت تشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي لدول الجوار، التي أرغمت على إعادة تقييم سياساتها، تجاه الميليشيات بوتيرة عالية، توجت بشن عمليات عسكرية ضدها.
كل ذلك جعل جزءاً من اليمنيين في خانة الحياد مما يجري، ناهيك عن وقوعهم تحت حصار الميليشيات، الذي أرغمهم على الخروج من دائرة المقاومة، والانشغال بتوفير احتياجاتهم.
بعد التدخل العسكري العربي ضد الانقلاب في اليمن لم نجد تضاداً كبيراً ومعلناً في موقف أمريكا وروسيا من الملف اليمني، فكلتا الدولتين تحثان على طرق أبواب الحلول السياسية، بمفهومها المعروف لديهما، القاضي بالحفاظ على أدوات الصراع على قيد الحياة، والحرص على تدجين الحل السياسي المروج له، بما يؤدي لجولات عنف قادمة، أشد وطأة وأكثر ضراوة، فليس من المفيد للأمريكان والروس الدفاع عن ميليشيات الانقلاب في المحافل الدولية، لما يكتنفه هذا الموقف من تداعيات كارثية، على علاقتهم بدول الإقليم، خاصة أن انقلاب اليمن تعدى الداخل اليمني ليصبح شأناً خليجياً بالدرجة الأولى، تجلى بقيادة دول الخليج تدخلاً عسكرياً، يتجه نحو فرض رؤية تعيد ضبط بوصلة الأحداث في اليمن، وبأي كلفة، مما حدا بواشنطن وموسكو لاتخاذ مواقف مهادنة للموقف الخليجي، يتيح لهما الدخول فيما يجري في اليمن، من نافذة الحل السياسي.
كلما اتجهت الأحداث في اليمن صوب تحقيق نصر عسكري وسياسي على ميليشيات الانقلاب أثيرت مخاوف لدى واشنطن وموسكو من قرب اندحارها، الأمر الذي يجعلهما تحثان الأمم المتحدة على إيفاد ممثلها في اليمن إسماعيل ولد الشيخ للدفع نحو مفاوضات تنتهي بصياغة اتفاق سياسي برعاية أممية، على ضوئه تنسحب ميليشيات الانقلاب من بقية المدن والمحافظات، التي مازالت تحت سيطرتها، مع شرعنة لوجودها السياسي، يشرعن لها في المستقبل القريب لأي خروج على الثوابت الوطنية، فأي حديث عن حل سياسي مع ميليشيات نكلت باليمنيين أيما تنكيل، دون بسط الجيش الوطني والمقاومة السيطرة على كل المحافظات اليمنية، وتجريد الميليشيات من سلاحها، وليس عبر خدعة الانسحاب، التي لا هدف لها سوى احتفاظ الميليشيات ببقية ترسانتها العسكرية، ومنحها فرصة للعودة لثكناتها لإنقاذها من النهاية المشؤومة، قبل قذفها خارج المشروع الوطني، والإبقاء عليها كمعادل موضوعي، يقف على طرف مناقض لكل القوى الوطنية.
إن الميليشيات العصبوية المذهبية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تؤمن بالوطن، بالمعنى العميق للذات الجماعية والهوية الوطنية، والحرص على بقائها جزءاً من المشهد الوطني ما هو إلا تمزيق للذات اليمنية بين شمال وجنوب، أو زيدي وشافعي، إلى غير ذلك من المسميات الناحرة للانتماء الوطني، ولن يتجاوز اليمنيون محنتهم، ويتمكنوا من العودة للتلاحم الوطني، مادامت القوقعة العصبوية المذهبية تفرض عليهم مع قوقعات أخرى البقاء في وحل الدماء ومستنقع الدمار والخراب، ومن ثم يبقى الاختبار الأكبر هو إقامة علاقة صحية مع الوطن، بما يمكننا من إدارة الصراع السياسي بأسلحة العصر ولغته، دون اللجوء للانتحار بديلاً عن الحوار، واستيعاب عناصر القوة الخلاقة، اللازمة للنهوض باليمن في ميادين الاقتصاد والسياسة، لكل من لا يحمل على كتفه البندقية ليفرض مشروعه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.