أثارت الحادثة الأخيرة التي سقط ضحيتها مئات القتلى والمصابين في فرنسا، ردود أفعال كبيرة، نظرا لفداحة الحدث، وعدد الضحايا، ولست معنيا هنا في هذه الورقة برصد ظاهرة العنف وأسبابها، بل أنا معني هنا ببيان الحكم والموقف الشرعي الإسلامي من مثل هذه الأحداث، وبيان موقف الإسلام من العنف بشكل عام كوسيلة، سواء قصد بذلك الجناة موقفا سياسيا، أو موقفا دينيا، وهل يصلح العنف كوسيلة للتعبير عن موقف في الإسلام؟ وما موقف الإسلام وفقهاء الكبار المعتبرين من مثل هذه الأعمال؟
ولن أستبق التحقيقات، فأتحدث عن هوية الفاعلين، فهذا ليس من شأن العلماء في الإسلام، بل من شأن أهل الاختصاص في هذا الأمر، إنما شأننا بيان موقف الإسلام، أيا كان الفاعل.
إن من قاموا بهذا العمل، إما أشخاص يحملون جنسية البلد، أو زائرون دخلوها بتأشيرة زيارة قصيرة، أو طويلة. فما حكم من يزور بلدا، أو يقيم فيه، سواء كانت هذه الدولة محاربة للإسلام، أو غير محاربة له، وسواء كانت بلاد الزائرين في حالة حرب معهم، أو حالة سلم؟! سنتحدث هنا عن موقف المسلم لأن الإسلام لا يملك أن يخاطب إلا المسلم.
إن دخول المسلم في بلاد غير المسلمين، سواء بتأشيرة دخول بغرض الزيارة، أو تحويلها فيما بعد لإقامة قصيرة أو دائمة، ثم حمله لجنسية البلدة التي أقام فيها فترة من الزمن حسب قوانين البلاد، هذا بمثابة عقد (الأمان) بلغة الفقه الإسلامي؛ عقده لك هؤلاء الناس، حيث إن من شرط حصوله على ذلك: أنه يملأ طلبا، وفيه أسئلة أمنية واضحة، هل سيدخل البلاد بنية الإرهاب أو القتل؟ ومعلوم أنه بطلبه الذي قدمه للسفارة، أو لوزارة الداخلية، أو شؤون الهجرة، أيا كان المسمى في كل دولة، فهذا عقد بينه وبينهم، بعدم إحداث أمر في بلادهم، أو قتل أحدا على أراضيهم، أو ارتكاب أي مخالفة قانونية، فإذا فعل ذلك يكون قد اقترف محرما حرمه الإسلام، ولا حجة أو عذر عند من يبني تبريراته على الموقف السياسي لهذه الدول من بعض مظالم المسلمين في بعض الدول، فمبادئ الإسلام لا تتجزأ، وحكم الشرع لا يتناقض في الموقف الواحد، وهو موقف حرمة الدم، والمال، والعرض، مع كل بني البشر، بغض النظر عن الجنس، واللون، والدين، والعرق. وذلك لعدة أدلة واضحة وصريحة في ديننا الحنيف منها:
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن من غدر بمن أعطاه الأمان، فسفك دمه: "أيُّما رجل أَمَّن رجلا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرا"، وفي رواية: "فإنه يحمل لواء غَدْر يوم القيامة". وفي رواية: "إذا اطمأن الرجل إلى الرجل؛ ثم قتله: رُفع له لواء غدر يوم القيامة".
فهذا نص صريح وواضح، في الحكم على من يدخل دولة، يعطيه أهلها حق الدخول بأمان، فيسفك دم أي إنسان فيها، بأنه غادر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بريء منه، ومن فعلته.
2ـ ويكفينا في ذلك استدلالا على أخلاق المسلم مع غير المسلمين في بلادهم، حتى وإن ناله منهم ظلم وغدر، أن يكون منه الوفاء والخلق، موقف خبيب بن عدي رضي الله عنه، وقد كان ممن أُسِرُوا في فاجعة بئر الرجيع، فاشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل، ليقتلوه بالحارث الذي قتله خبيب يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا قتله استعار مُوسَى (ألة حلاقة) من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها، فأعارته، وغفلت عن صبي لها، فدرج فجلس على فخذه، تقول المرأة: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب رضي الله عنه: أتخشين أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. فكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب. وكانت أخلاقه سببا في إسلامها فيما بعد.
إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي، فقد قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) الإسراء: 15. إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، فإن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة.
3ـ كما أن من سلوك المسلم إذا ما عاهد أحدا وفى بعهده، وإن اشتمل عقد الوفاء ببعض الظلم له، فقد قبل بعقد المواطنة في بلاد الغرب، وأعطي الإقامة أو الجنسية بناء على ذلك، فوجب عليه الوفاء بما اتفق عليه، وخير مثال لذلك ما حدث مع الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يقول عن سبب غيابه عن غزوة بدر، وهي أولى معارك الإسلام المهمة، التي سماها القرآن: (يوم الفرقان)، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعنا أن نشهد بدرا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرون إلى المدينة، ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم، فما ترى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نستعين اللهَ عليهم، ونفي بعهدهم"، فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدرا.
فالمتأمل في الحديث هنا يجد: أن الحالة هنا حالة حرب، ومع ذلك يتمسك الإسلام بالميثاق الأخلاقي حتى عند الحرب، فليست مبررا لتجاوز المسلم لأحكام دينه، ولا لأخلاقه، بدعوى: الغاية تبرر الوسيلة، فهو مبدأ مرفوض في الإسلام.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الانصراف أمرهما بصيغة المثنى: انصرفا، فأمر الانصراف خاص بحذيفة وأبيه فقط، أما الوفاء بعهد المشركين المحاربين فلم يقل صلى الله عليه وسلم: تفيا بعهدكما، بل قال (ونفي) بالجمع لا التثنية، لأن الموقف هنا يمثل المسلمين جميعا، وهو ما يجعل كل مسلم لا يحكم على أي تصرف يفعله وحده، أنه تصرف فردي يمثله، فهذا خطأ، إنما ينظر المجتمع للمسلم، والمتدين، نظرة مجموع لا نظرة أفراد، نظرة للإسلام لا للمسلمين، فلنكن حذرين في التعامل من هذا المنطلق.
4ـ كما أمر الإسلام بأداء الأمانة لمن توسم فيك الأمانة، وأعطاك الأمان، ولم يسئ بك الظن، ونهى عن خيانة من يخونك، يقول صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانةَ لمن ائتمنك، ولا تَخُن من خانك".
يقول الإمام المناوي: (وهو نهي عن خيانة الإنسان لمن خانه، وأنه لا يقابل الإساءة بالإساءة، فبالأولى أن يحرم عليه خيانة من لم يخنه). ويقول الإمام الطيبي: (أي لا تعامل الخائن بمعاملته، ولا تقابل خيانته بالخيانة فتكون مثله).
هذا فيض من غيض من نصوص القرآن والسنة، في التدليل على حكم الإسلام من هذه الأعمال، والباحث في كتب المذاهب الفقهية، والتراث الفقهي، يجدها تنص على تجريم مثل هذه الأعمال، يقول: ابن الهمام الحنفي في شرحه (فتح القدير) على الهداية: (وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا، فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم؛ لأنه بالاستئمان ضمن لهم أن لا يتعرض لهم، فإخلافه غدر، والغدر حرام بالإجماع.
وفي سنن أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان").
وقال الميداني الحنفي: (وإذا دخل المسلم دار الحرب) بأمان (تاجرا) أو نحوه (فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم، ولا) لشيء (من دمائهم) أو فروجهم، لأن ذلك غدر بهم، والغدر حرام).
ويقول أبو يعلى الفراء: (وإذا دخل دار الحرب بأمان، وكان مأسورا معه فأطلقوه وأمنوه، لم يجز له أن يغتالهم في نفس، ولا مال، وعليه أن يؤمنهم كما أمنوه).
و يقول بهاء الدين المقدسي الحنبلي: (ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه) لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بأمنه إياهم من نفسه، وترك خيانتهم، وإن لم يكن ذلك مذكورًا فهو معلوم في المعنى، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "المؤمنون عند شروطهم").
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان كان أمانا لئلا يكون مخدوعا، وإن لم يقصد خدعه.. فعلم أن مخالفة ما يدل عليه العقد لفظا، أو عرفا خديعة وأنه حرام).
هذا هو موقف الشرع الإسلامي الحنيف من التعدي على الدماء أو الأموال أو المجتمعات بأي أمر من الأمور التي لا يقرها الشرع، مما يفعله البعض بدعوى أنهم كفار، وأنهم لا حرمة لهم، وأنهم ظلمة يعينون الظلمة علينا!! وقد نقلت نقولا مطولة عن الأئمة الأربعة كلها تتفق مع هذا الرأي، وأنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين في بلادهم، ولا خارج بلادهم، ما دام المسلم قد دخلها بأمان، وأمنوه، فليس من الإسلام رد الأمان بالغدر والخيانة، في المال، أو النفس، أو العرض، وهو ما اتفقت عليه كلمة الإسلام والمذاهب الفقهية الأربعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.