ذكرتني الطريقة التي تداولت بها الفضائيات خبر العثور على جواز سفر سوري قرب جثة أحد المتهمين بتنفيذ تفجيرات باريس، كما لو أنها كشفت الفاعل، وعثرت على دليل الإدانة الذي لا يقبل الشك لهوية من قام بالتفجيرات، بتاريخ مرير لمعاناة السوري مع جواز سفره، فلزمن طويل من ما بعد انقلاب عسكرتاريا البعث في 8 مارس 1963 ثم استيلاء صلاح جديد ومن بعده حافظ الأسد على السلطة في سورية، تحوّل جواز السفر السوري إلى ما يشبه دليل الإدانة يمدّه المواطن السوري برعب، وهو يحاول إخفاء ارتعاش يده وقلبه، إلى الموظف الجالس في قفصه الزجاجي في أي مطار أو منفذ حدودي في العالم، بما فيها المطارات والمنافذ الحدودية السورية، وكانت اللحظات الأطول والأقسى على السوري خلال كل حياته هي تلك التي كان يراقب فيها موظف أمن مطار ما من العالم، وهو يتصفح أوراق جواز سفره ويفتّش في أختام الدول التي زارها، ثم يدقق في قوائم الأسماء الموجودة لديه، ثم يُنقّل نظره بين المسافر وبين صورته المثبتة على الجواز، ولاحقاً بعد استخدام الكومبيوتر حين يتأمل ويصفن ويفكر ويركّز لوقت طويل في شاشة كومبيوتره، ثم يدقق في الجواز، ثم يعيد التأمل والصفن والتفكير والتركيز، ثم يضغط زراً على كيبورد كومبيوتره أو يكتب رقماً منتظراً استجابته.
كانت تلك اللحظات هي الأقسى على كل مواطن سوري، ولربما يعتبر كثير من السوريين أن محاسبة ملكا الموت أنكر ونكير للمتوفى بعد دفنه أكثر رحمة وأقل رعباً من الوقوف أمام موظف أمن جوازات في أي مطار، ولو كانت هناك أسباب خاصة بكل شعب من الشعوب للإصابة بالجلطات القلبية والدماغية مثل العادات أو المناخ، لكان الوقوف أمام موظفي أمن المطارات من أسباب الجلطات عند السوريين، وسيسجل السوريون فيما لو وجد إحصاء حقيقي لعدد الذين يتلون في سرهم الآية القرآنية الكريمة "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" رقماً قياسياً في موسوعة غينس بعدد قراءتها في سرهم ثم النفخ في وجوه موظفي أمن المطارات طوال الدقائق العصيبة التي يقفون فيها في مثل هذه البرازخ، فقد استطاع نظام حافظ الأسد خلال ثلاثين سنة من الاضطهاد والاستبداد أن يجعل المواطن السوري يشعر بأنه متهم في كل لحظة يمسك فيها وثيقة تحمل اسمه وصورته ولون وجهه وشعره وتاريخ ميلاده وأسماء أبيه وأمه، ويقدمّها لمن يطلبها منه بحالة أقرب إلى حالة المجرم المتخفي الذي وقع في قبضة العدالة، وضبط ضبط اليد، وربما يخالج كل سوري شعور بأن الوضع المثالي لتخفيف الإحساس بالذنب لديه وتصحيح خطئه هو الذهاب بقدميه إلى أقرب مركز بوليس والاعتراف على نفسه بجريمة لم يرتكبها.
حمل السوريون معهم عقدة الخوف والرعب التي غرسها ونمّاها فيهم حافظ الأسد إلى كل مطارات العالم، ومع عمليات التفجير والاغتيال التي شاركت فيها أو دعمتها أو وقفت خلفها أجهزة مخابراته في العالم، صار جواز السفر السوري وثيقة ينظر إليها بعين الريبة في المطارات، وعومل صاحبه لسنوات باعتباره إرهابي محتمل، وكان السوري يقف أمام كوة موظف أمن كل المطارات مثل عصفور وجد نفسه فجأة تحت أمطار خط الاستواء.
اعتقل سوريون كُثر من المطارات والمنافذ الحدودية في سورية والعالم، وكثير منهم بوشاية أو بتقرير كيدي أو بتشابه أسماء أو نتيجة خطأ بشري أو حرص مبالغ به من رجل أمن أو بشبهة أنه سوري، ولم يحلم السوري الذي يُعتقل أن تحرّك دولته أساطيلها وطائراتها وجيوشها لتحميه في أية بقعة من العالم، أو أن تطالب به على الأقل عبر وزارة خارجيتها وسفرائها كما يحدث مع حاملي جوازات السفر الأخرى، وكانت أقصى أمانيه أن لا تزود أجهزة المخابرات السورية الدول التي تعتقله بمعلومات وتقارير عنه، أو تطالب بتسلمه لتتولى التحقيق معه بنفسها، والمضحك المبكي أن المرة الوحيدة التي شعر فيها السوري بأن جواز سفره يملك قيمة ما كانت عند تنازله عنه وقبوله أن يتحول إلى لاجئ!
أستطيع أن أروي حكايات طويلة ومضحكة عن قصص حرص المواطن السوري على جوازه، خوفاً من ضياعه أو سرقته أو فقدانه، ولكن بالتأكيد ليس من بينها حرص انتحاري ذاهب لتفجير نفسه على حمله معه، والتأكد من أنه لن يصيبه أي أذى جراء التفجير!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.