بين فلسفة نيتشه والمقاومة

عربي بوست
تم النشر: 2024/05/02 الساعة 16:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/02 الساعة 16:04 بتوقيت غرينتش
المقاومة الفلسطينية/ مواقع التواصل

لقد تم تفسير مفهوم إرادة القوة لفريدريك نيتشه بشكل خاطئ على نطاق واسع. البعض اعتقد خطأً أن نيتشه يمجد الوحشية والطغيان، وهذا الالتباس نشأ جزئياً بسبب تأويل النازيين لأفكاره، بمساعدة أخته فورستر نيتشه التي كانت قومية ألمانية، لتدعم أيديولوجياتهم.

ومع ذلك، فإن إرادة القوة لا تقتصر على نظرية فجة للصراع والسيطرة فحسب، بل تعكس الطاقة الديناميكية للحياة. هذه القوة تتجلى من خلال تصرفات الأفراد والمجموعات بطرق متعددة؛ فهي يمكن أن تُمارس بما يفيد الناس بقدر ما يمكن أن تُستخدم لإلحاق الضرر بهم. وبما أن إرادة القوة موجودة بشكل طبيعي في كافة جوانب العالم الحي، فإن كل تصرف يصبح، في جوهره، تعبيراً عن هذه الإرادة.

ماذا يقصد نيتشه بإرادة القوة؟!

في فلسفته الوجودية يطرح نيشته دعوة للأفراد إلى تشكيل حياتهم على نحو يرضونه، عن طريق ما يسميه "إرادة القوة"؛ لأنّها تحقّق لهم الارتقاء والحريّة والسيادة على أنفسهم في هذا العالم.

في شبابه، تأثر نيتشه بشكل عميق بالفيلسوف المتشائم آرثر شوبنهاور، الذي طور نظرية تقول بأن "الإرادة" هي القوة الأساسية التي تحرك التغيرات في الكون. شوبنهاور اعتبر أن "إرادة الحياة" هي علة الرغبة في البقاء على قيد الحياة واعتقد أن إرادة الحياة لا تسبب شيئاً سوى الألم.

رغم إعجاب نيتشه بفكرة الإرادة نفسها، لم ترُق له نظرية "إرادة الحياة" كما صاغها شوبنهاور. هذا النقد ألهم نيتشه لتطوير مفهومه الخاص عن القوة الدافعة وراء التغيير، والذي برز في كتاباته المبكرة التي تناولت بشكل متقطع فكرة "الإرادة" كعامل فاعل في الأشياء.

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، صاغ نيتشه مفهوم "إرادة القوة"، والذي أصبح جزءاً محورياً في فلسفته. في روايته الفلسفية "هكذا تكلم زرادشت"، يبلور نيتشه هذه الأفكار في قسم "في التغلب على الذات"، حيث يكتب: "ليس للعدم إرادة، لكن ذلك الذي هو موجود كيف له أن يطلب الوجود؟ فقط حيث توجد حياة، هناك أيضاً إرادة: لا إرادة للحياة، ولكن – كما أعلمكم – إرادة القوة!"

نيتشه استوعب أن الكائنات الحية كثيراً ما تغامر بحياتها من أجل النمو والازدهار. هذا الإدراك دفعه لتفسير الأمر من خلال مفهوم إرادة القوة، التي بدأ يراها كالقوة الدافعة لكفاح البشر، وكذلك تجسيداً لمبدأ التغير الكوني نفسه.

يطرح نيتشه أيضاً فكرة "الإنسان الأعلى"؛ أي الفرد الذي تسامى وارتقى حتّى حقّق الحريّة الحقيقيّة المتمثّلة في تشكيل مصيره بنفسه. فالفرد المتسامي عند نيتشه، هو الذي يختار أهدافه وينتقي قيمه ومبادئه، دون الخضوع لأيّ ضغوط خارجة عن إرادته. هي فكرة تدعو الإنسان إلى احتضان ما يسمّيه "إرادة القوّة"، وهو دافع داخليّ لدى الإنسان للتحرّر وسيادة نفسه؛ فيشكّل الإنسان الأعلى بذلك نموذجاً فكرياً للإنسان الذي يتغلّب على القيم والمقاييس التي تعيقه، ويصنع قيمه الخاصّة.

قادراً على تنمية، لا نفسه فقط، بل مجتمعه وشعبه أيضاً، والارتقاء بظرفهم الجماعيّ؛ أي حملهم على تجاوز الظرف السياسيّ الصعب نحو الحريّة.

وهذا ما تجسده المقاومة في غزة نموذج هذا الإنسان المتسامي، الذي يتسامى ويرتقي بأن يجعل معنى وجوده في التزام دوره السياسيّ للارتقاء بشعبه؛ أي يتسامى بممارسة سياسية مبنيّة فلسفياً على الإرادة رغم الظروف التي تخبره كل يوم أن من المستحيل أن تكون نداً للاحتلال.

يدرك الفلسطيني في غزة أن المعركة مع الاحتلال هي معركة وجوديّة، وحرب على إرادة القوّة الفلسطينيّة؛ أي حرب على دافعهم لسيادة أنفسهم سياسياً. في هذا السياق، تصبح المقاومة فلسفة تتجاوز تقرير المصير الفرديّ، وتصبح أداة للتأثير في الخطاب السياسيّ وتشكيله؛ فالإنسان الكادح المتمسّك بتحقيق هدفه التحرريّ سيسخّر كلّ جهوده لذلك ما استطاع. 

والمقاومة الفسطينية في غزة لم تكن بحاجة إلى جعل أطفال الأمس ومقاومي اليوم لقراء نيتشه، فمن خلال القيم الإسلاميّة المزروعة في المجتمع استاطاعت أن تنتج هذا الإنسان المتسامي، أو هذه الحالة في الفرد الفلسطينيّ؛ عن طريق مفاهيم، مثل الزهد والتضحية والفداء، كل ذلك ساعد في بناء دافع داخلي فيهم للمقاومة غير متأثّر بالواقع المستحيل أمامهم أو بالضغوط الخارجيّة عليهم، فعندما انطلقت المقاومة الفلسطينية في غزة لأول مرة في الثمانينات، كانت تبدو محاولاتها أشبه بمحاولة طفل تهديد رجل ضخم بمسدس بلاستيكي. وعندما أطلقت المقاومة أول صاروخ لها في الانتفاضة الثانية، انطلق مع الصاروخ سيل من التحليلات الساخطة والساخرة من الصواريخ "العبثية".

وهنا نرى إذا كان قد طرح نيتشه مفهومه عن القوة، فها هي حماس تطرح لنا إرادة المقاومة وهي  الفلسفة التي استطاعت منها أن تراكم القوة العسكرية بعد عدة هزائم حتّى أصبح لـ"كتائب القسّام"، بنية صاروخيّة ومقاتلون قادرون على إجبار الاحتلال على دفع الثمن،  بحيث يقرر الانسحاب أو ربما تخور قواه على الأقل إلى أن تأتي الضربة القاضية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم
كاتب مصري
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد